الحمد لله الذي أنعم علينا بالإسلام ، وشرح صدورنا للإيمان ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وصحبه أجمعين ، وبعد : -
تعودت أسماعنا سماع من يتشاءم من شهر صفر ، وتنقبض صدورهم منه كلما جاء ، وهذا بقية من سنن الجاهلية الباقية في أفئدة المسلمين ، عمل على بقائها وترسيخها الجهل بالإسلام ومحاكاة غير المسلمين ، ممن يتطيرون من بعض الأشخاص ، أو من بعض الأيام والشهور ، أو من مواقع النجوم أو غير ذلك ، وهؤلاء في الحقيقة إما غير مؤمنين بالله أصلاً ، وإما في عقائدهم خلط ووهم كثير .
وسبب تشاؤمهم منه أنه كان في الجاهلية يأتي في أعقاب الأشهر الحرم وهي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، فإذا هل هلال صفر إنقضت القبائل على بعضها فيكثر القتلى والسبايا ، ويصبح الناس في ذعر لا نظير له فأبطل الإسلام ذلك ، وما زالت رواسب الجاهلية في هذا إلى يومنا فترى كثيرا من حمقى الناس يحجمون عن إنجاز أمورهم في شهر صفر فلا يتزوجون ، ولا يبنون ولا يبرمون أمرا هاماً ، وكثيراً ما ساعدهم على هذا المعتقد الفاسد أحاديث موضوعة وضعها الأفاكون منها ما روي كذباً وافتراء مثل ( بشروني عن أمتي بعد صفر ) وكان العرب قبل الإسلام إذا أراد أحدهم أمراً ذهب إلى وكر الطائر يستنفره للطير ويزجره ، فإذا طار عن يمينه تفاءل واستبشر وذهب متيمنا ، وإذا طار عن يساره تشاءم ونكص حزينا ، فنهى رسول الله- صلى الله عليه وسلم - عن ازعاج الطيور ، أما التفاؤل والاستبشار فهو مشجع على العمل ، محرك للعزائم ، باعث على النشاط والإقدام ، يقوى الأمل ويزيد الرجاء .
المتفائل لا يصده خوف طائر ، ولا يرده نعيب الغربان وصراخ الحيوان بل هو يثق بربه فيمضي لا يخشى إلا الله ، فالتفاؤل من وسائل الفوز ، والتطير من أسباب الحرمان ، ومنذ أن أشرقت شمس الإيمان على شبه الجزيرة العربية منذ خمسة عشر قرناً من الزمان ، والإسلام يدعو الناس إلى التمسك بالعقيدة السليمة المستقيمة ، وأن يلتزموا بالتوحيد الذي جاءت به رسل الله وأنزله في كتابه ، كما جاء ليحرر العقول من أوهام الماضي ، ولتطهيرها من المعتقدات الزائفة ، كيف يرضى المسلم أن يثلم في عقيدته ؟ ! والعقيدة هي الجواز لدار السلام ، وهي صمام الأمان عندما تدلهم الفتن ، ويختلط الحق بالباطل .
نماذج من التفاؤل النبوي
إن القنوط واليأس أمر يفتك بالأمم، من هنا حارب الإسلام ذلك وأوجد البديل، فقد حارب اليأس وأوجد الأمل، وحارب التشاؤم وأوجد التفاؤل.
وكان – صلى الله عليه وسلم – يوجه أصحابه قائلاً : ( بشروا ولا تنفروا ، يسروا ولا تعسروا ) .
ونحن هنا نذكر بعض الأمثلة على تفاؤله – صلى الله عليه وسلم – رغم الظروف الصعبة والقاسية :
* الهجرة النبوية :
المؤمن دائماً على قناعة بأن الليل مهما طال فلا بد من بزوغ الفجر، والأمل هو شعار المؤمن في حياته ، فلا بد من الأمل والتفاؤل دائماً ، وهذا درس نتعلمه من هجرة النبي – صلى الله عليه وسلم – فحينما هاجر عليه الصلاة والسلام وخرج من بلده مع صاحبه أبي بكر ، تبعهما أحد فرسان العرب الطامعين في الجائزة التي رصدتها قريش لمن يأتي بمحمد وصاحبه حياً أو ميتاً ، وهي مائة ناقة، فصمم ( سراقة بن مالك) على الفوز بها ، فركب فرسه ، وأخذ سلاحه ورمحه ، وأسرع حتى أدرك النبي وصاحبه أبا بكر ، فعثرت قدم فرسه مرة ومرة ومرة ، ثم غاصت أقدام الفرس في الأرض .
ثم قال له النبي – صلى الله عليه وسلم –: " عد يا سراقة وإنني أعدك بسواري كسرى " ؟ قال له : كسرى بن هرمز ؟ ! قال : " نعم كسرى بن هرمز " .
سمع الرجل هذا وهو غير مصدق أن هذا المطارد المهاجر يطمع في أن يرث مملكة كسرى وكنوزه.
فأخذ هذا الكلام ، ودخل بعد ذلك في الإسلام .
حتى كان عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – وقد فتحت مملكة كسرى وفتح إيوان كسرى في المدائن ، وجاءت كنوز كسرى ، ومنها سواراه فتذكر عمر بن الخطاب بشرى النبيى – صلى الله عليه وسلم – لسراقة ، فنادى في الناس : أين سراقة بن مالك ، فجاء من وسط الجماهير وهو يقول: ها أنا يا أمير المؤمنين : قال : أتذكر يوم قال لك النبي – صلى الله عليه وسلم – كذا وكذا ، قال: نعم أذكره ولا أنساه ، فقال له : تعالى ألبسك سوارى كسرى ، وألبسه السوارين ، وقال له : قال الحمد لله الذي أذل بالشرك كسرى وأعز بالإسلام سراقة بن مالك ، ما الذي دفع الرسول عليه السلام أن يقول ذلك لسراقة ؟
إنه التفاؤل بما عند الله وهكذا كان أمل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو مطارد من بلده ، كان يعتقد أنه سينتصر ، وأن دينه سيظهر ، وأن الله ناصر عبده ، بفضله وكرمه .
* غزوة الخندق :
وكان رسول الله r متفائلاً في جميع أحواله فيوم اجتمع أعداء الإسلام من كل حدب وصوب لمحاربته في غزوة الخندق كان الرسول والمسلمون في حالة صعبة كما وصفهم القرآن الكريم : {إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا*هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} (1) .
ومع ذلك كان الرسول – صلى الله عليه وسلم - متفائلاً بنصر الله ، وبشر الصحابة بأن نصر الله آت، فعندما اعترضتهم صخرة صلدة أثناء حفرهم للخندق ضربها بفأسه، وإذ بثلاث شرارات تتطاير فقال r ابشروا : أما الأولى فقد أضاء الله لي منها قصور الحيرة ومدائن كسرى، وأما الثانية فقد أضاء الله لي منها قصور الروم، وأما الثالثة فقد أضاء الله لي منها قصور صنعاء فإن الإسلام بالغ ذلك لا محاله.
ما الذي جعل الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام يبشر أصحابه بذلك ، والأعداء محيطون به من كل جانب ، كما وصفت ذلك الآية السابقة ، إنه الأمل والتفاؤل بأن الله مع الذين آمنوا ، والذين هم محسنون .
كما ونجد أن القرآن الكريم يقول :" {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا *َإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} (2 ) فالعسر جاء معرفا، والمعرفة إذا كررت كانت عين الأولى، واليسر جاء منكراً والنكرة إذا كررت كانت غير الأولى، فلن يغلب عسر يسرين.
فالمؤمن يجب أن يكون متفائلاً دائماً بفرج الله كما ورد عن تميم الداري قال :سمعت رسول الله r يقول : "ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزا يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر" (3).
وكلمة ما بلغ الليل والنهار في هذا الحديث الرائع كلمة جامعة من خصائص البلاغة المحمدية، ولا أرى نظيراً لها في الدلالة على السعة والانتشار.
فعلينا أن نكون متفائلين، وأن نثق بفرج الله، وأن نوكل الأمر لصاحب الأمر، فالليل مهما طال فلا بد من بزوغ الفجر، وأن الفجر آت بإذن الله، رغم المشككين، رغم الحاقدين.
الأمل في الله عز وجل
رغم الجراح المؤلمة ورغم الظروف القاسية ورغم ما نراه ونسمعه في هذا العالم من ظلم واستبداد وكيل بمكيالين، وما يتعرض له شعبنا الفلسطيني في نابلس ، وجنين وسائر المحافظات من قتل وتشريد ، وتدمير ، وما يتعرض له المسجد الأقصى المبارك من حفريات وحفر أنفاق لزعزعة أركانه ، وتقويض بنيانه من أجل إقامة ما يسمى بهيكلهم المزعوم ، إلا أن ثقتنا في الله كبيرة، إن ثقتنا في الله عظيمة، والآيات القرآنية والأحاديث النبوية الصحيحة فيها الخير ، وفيها ما يطمئن القلوب ويبعث الأمل في النفوس، بأن المستقبل لهذا الدين إن شاء الله ، فالليل مهما طال فلا بد من بزوغ الفجر، وإن الفجر آت بإذن الله.
إن الخير لا يزال باقياً في هذه الأمة إن شاء الله إلى يوم القيامة ، لن تهزه عواصف هوجاء ولا رياح عاتية ، وستبقى أمتنا قادرة إن شاء الله على تجاوز المحن والشدائد مهما اشتد الظلام، فلا بد من طلوع الفجر، وسوف تتوحد الأمة وتقف صفًا واحدًا أمام أعدائها.
ونقف عند البشارة التي قالها – صلى الله عليه وسلم - : (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ولعدوهم قاهرين حتى يأتي أمر الله وهم كذلك) (4 ) ، وفي رواية ( لا يضرهم من خالفهم ولا ما أصابهم من لأواء حتى يأتي أمر الله وهم كذلك " قيل : يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأين هم ؟ قال : ( ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس ) (5 ).
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون
الهوامش :
1- سورة الأحزاب الآية (10-11) 2 - سورة الشرح الآية (5-6) 3- رواه الإمام أحمد
4- أخرجه الإمام البخاري 5- رواه الإمام أحمد
من هذه المبشرات ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله |