2023-03-23

الإسلام وحقوق الجار... ومكانة الأقصى والقدس
2016-11-25

الخطبة الأولى :

أيها المسلمون :

 أخرج الإمام البخاري في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ( مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلا يُؤْذِ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ).  

لقد حرص ديننا الإسلامي الحنيف على تكوين مجتمع مترابط متحابب، يعيش في جوٍّ من الألفة والمحبة، حيث عمل على توفير  أسباب السعادة وتجنب أسباب الشقاء، وقد جمع كتاب الله الكريم  الإحسان إلى الجار مع عبادة الله وبرّ الوالدين والأقربين في دلالة واضحة على أهميته، كما في قوله سبحانه وتعالى : {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا}.

 لذلك فقد أوصى الإسلام بالجار خيراً، حيث جاء ذلك في كثيرٍ من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ، وأوجب له حقوقاً كثيرة ، تتعدد وتتنوع تبعاً لنوع العلاقة والرابطة التي تجمع الإنسان بجاره ، ومن المعلوم أن الجيران ثلاثة : جارٌ له حق واحد ، وجارٌ له حقان ، وجارٌ له ثلاثة حقوق .

أما الجار الذي له حق واحد : فالجار الكافر ، ليس له إلا حق الجوار ، وأما الجار الذي له حقان : فالجار المسلم غير القريب ، له حق الإسلام ، وحق الجوار ،  وأما الجار الذي له ثلاثة حقوق : فالجار المسلم القريب، له حق الجوار ، وحق الإسلام ، وحق القرابة .

أيها المسلمون :

 لقد سار المسلمون على هدي القرآن الكريم وسنة الحبيب –صلى الله عليه وسلم-   فأحسنوا إلى جيرانهم وعاملوهم معاملة حسنة ، وقد كان لهذه المعاملة الكريمة أثر كبير في الآخرين، حيث كانت سببًا في إقلاعهم عن المعاصي والذنوب ، فقد ذكرت كتب السيرة والتاريخ أنه كان للإمام أبي حنيفة جار إسكاف بالكوفة، يعمل نهاره أجمع، حتى إذا جاء الليل رجع إلى منزله، وقد حمل لحماً فطبخه أو سمكة فيشويها، ثم لا يزال يشرب حتى إذا دبَّ الشراب فيه، غَنَّى بصوت وهو يقول:  أضاعوني وأي فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر

فلا يزال يشرب ويردد هذا البيت حتى يأخذه النوم، وكان أبو حنيفة يسمع جلبته، ومن المعلوم أنا أبا حنيفة كان يصلي الليل كله، وذات يوم فقد أبو حنيفة صوته فسأل عنه، فقيل: أخذه العسس ( رجال الشرطة) منذ ليال وهو محبوس، فصلى أبو حنيفة صلاة الفجر وركب بغلته، واستأذن على الأمير فأذن له ، وقال أقبلوا به راكبا ولا تدعوه ينزل حتى يطأ البساط، ففعل، ولم يزل الأمير يُوسّع له من مجلسه، وقال ما حاجتك يا إمام؟ قال: لي جار إسكاف أخذه العسس منذ ليال ، آمل أن يأمر الأمير بتخليته، فقال: نعم ، وكل من أُخذ بتلك الليلة إلى يومنا هذا، فأمر بتخليتهم أجمعين، فركب أبو حنيفة بغلته ، والإسكافي يمشي وراءه، فلما نزل أبو حنيفة مضى إليه ، فقال: يا فتى أضعناك قال: لا، بل حفظتَ ورعيتَ ، جزاك الله خيراً عن حرمة الجوار ورعاية الحق، وتاب الرجل ولم يَعُدْ إلى ما كان  عليه من أعمال سيئة".

أيها المسلمون :

إنَّ مِنْ أهم ما عُني به الإسلام حق الجوار ورعاية حرمات الجار ، حرصًا على سلامة النسيج الاجتماعي وحمايةً له من الضعف والوهن، ليكون المجتمع المسلم كما أراده – صلى الله عليه وسلم – كالجسد الواحد ، فمن حق الجار على جاره أن يكون له في الشدائد عوناً ، وفي الرخاء أخاً ، يحزن لحزنه  ويفرح لفرحه ، ينفس كرباته  ويقضي حاجاته ، ويهنئه إذا أصابه خير ، ويدفع عنه الأذى  والمكروه، فقد ذكرت السنة النبوية الشريفة بعض الأحاديث التي تبين حقوق الجار منها :  ما رُوي عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ قَالَ:  قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا حَقُّ الْجَارِ عَلَيّ؟  قَالَ : ( إنْ مَرِضَ عُدْتَهُ ، وَإِنْ مَاتَ شَيَّعْتَهُ،وَإِذَا اسْتَقْرَضَكَ أَقْرَضْتَهُ، وَإِذَا افْتَقَرَ عُدْتَ عَلَيْهِ، وَإِذَا أَصَابَهُ خَيْرٌ هَنَّأْتَهُ،وَإِذَا أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ عَزَّيْته،وَلا تَسْتَطِلْ عَلَيْهِ بالبُنْيَانِ فَتَحْجُبَ عَنْهُ الرِّيحَ إلا بِإِذْنِهِ، وَلا تُؤْذِهِ بقتار ريح قِدْرِك إلا أَنْ تَغْرِفَ لَهُ مِنْهَا،وإن اشْتَرَيْتَ فَاكِهَةً فَأَهْدِ لَهُ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَأَدْخِلْهَا سِرًّا ، وَلا يَخْرُجُ بِهَا وَلَدُك لِيَغِيظَ بِهَا وَلَدَهُ)، وقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أيضاً: ( مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ) .

 

أيها المسلمون :

من المعلوم أن ديننا الإسلامي الحنيف قد حذرنا من عدم رعاية حق الجار ، فضلاً عن الإساءة إليه ، حيث  تَوَعَّد رسولنا – صلى الله عليه وسلم – أولئك الذين يسيئون إلى جيرانهم بالعذاب الشديد ،  كما جاء في الحديث الشريف : ( عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ  أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: وَاللَّهِ لا يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لا يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لا يُؤْمِنُ، قِيلَ : وَمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الَّذِي لا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ ).   

كما يحذرنا – صلى الله عليه وسلم – من خيانة حقوق الجار ، حيث بَيَّنَ – عليه الصلاة والسلام – أن عقوبة إيذاء الجار تفوق عقوبة إيذاء غيره عشر مرات ، كما جاء في الحديث عن الْمِقْدَادِ بْنِ الأَسْوَدِ – رضي الله عنه - قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأَصْحَابِهِ: مَا تَقُولُونَ فِي الزِّنَا؟ قَالُوا: حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؛ فَهُوَ حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ, قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لأَنْ يَزْنِيَ الرَّجُلُ بِعَشْرِ نِسْوَةٍ أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَزْنِيَ بِامْرَأَةِ جَارِهِ, قَالَ: فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي السَّرِقَةِ؟ قَالُوا: حَرَّمَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَهِيَ حَرَامٌ, قَالَ: لأَنْ يَسْرِقَ الرَّجُلُ مِنْ عَشْرَةِ أَبْيَاتٍ أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَسْرِقَ مِنْ جَارِهِ) .

وقد بالغ الإسلام في تحذير أولئك الذين لا يرعون حقَّ الجار ، حين أعلن أن المسلم الذي لا يهتم بشأن جاره ، ولا يألم لألمه ، ولا يحسّ بإحساسه قد جافى خُلُقَ أهل الإيمان ، كما جاء في الحديث الشريف: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - :( ما آمَنَ بي مَنْ بَاتَ شَبْعَانَاً وجَارهُ جَائعٌ إلى جَنْبِه، وهُوَ يَعلَمُ ) .

ما أجمل ديننا الإسلامي الذي يحرص على تقوية الروابط الأخوية بين المسلمين، ويبدو ذلك واضحاً وجلياً من خلال اهتمامه بالجار والحث على مراعاة حقوقه وتحريم إيذائه وظلمه، ووجوب مناصرة المظلوم واستنكار الإساءة إليه، ورفع الظلم عنه، لأن المسلمين كالجسد الواحد.

ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة ، فيا فوز المستغفرين استغفروا الله ....

الخطبة الثانية :

أيها المسلمون :

 لا يخفى علينا جميعاً ما تتعرض له بلادنا المباركة فلسطين بصفة عامة والمدينة المقدسة وقلبها المسجد الأقصى المبارك بصفة خاصة من اعتداءات إسرائيلية واقتحامات يومية وقتل وتشريد واعتقال وتدمير .

ومن المعلوم أن لفلسطين وَغُرَّة جبينها القدس ولؤلؤتها المسجد الأقصى المبارك مكانة عظيمة في الإسلام، جاء التنويه بها في القرآن الكريم وفي السنة النبوية الشريفة، وتجلَّت كذلك في مشاعر المسلمين وعواطفهم الدينية وفي تعلقهم القلبي والروحي بهذه البلاد المباركة، وظهرت هذه المكانة أيضاً عبر التاريخ من خلال حرص المسلمين على فتح وتحرير فلسطين عامة والقدس خاصة وذلك في خلافة عمر بن الخطاب ثم في أيام صلاح الدين الأيوبي، كما عملوا على صيانة معالمها والمحافظة عليها، ففلسطين أرض النبوات، وتاريخها مرتبط بِسِيَرِ الرسل الكرام -عليهم الصلاة والسلام-، وهي عزيزة علينا، دنيا ودينًا، قديماً وحديثاً.

ومن الجدير بالذكر أن مدينة القدس تحتل مكانة مميزة في نفوس العرب والمسلمين، فهي المدينة التي تهفو إليها نفوس المسلمين وَتُشدّ إليها الرحال من كل أنحاء المعمورة، ففيها المسجد الأقصى المبارك، وفيها التاريخ الإسلامي العريق الذي يزرع نفسه بقوة في كل شارع من شوارعها، وكل حجر من حجارتها، وكل أثر من آثارها .

أيها المسلمون :

 إن مدينة القدس في هذه الأيام تتعرض لمحنة من أشد المحن وأخطرها، فالمؤسسات فيها تُغلق، والشخصيات الوطنية تُلاحق، وآلاف المقدسيين يُطردون، وتُفرض عليهم الضرائب الباهظة، وتُهدم عشرات البيوت في البلدة القديمة وشعفاط وسلوان والشيخ جراح والعيساوية وغيرها من الأماكن، إلى إغلاق المحلات التجارية في باب العامود، وإقامة الحدائق التلمودية في محاولة لتزييف التاريخ والحضارة ، والعمل على تغيير المناهج التعليمية وأسماء الشوارع والميادين، كما أن الأرض تُنهب، وجدار الفصل العنصري يلتهم الأرض، وكل معلم عربي يتعرض لخطر الإبادة والتهويد، وسلطات الاحتلال تشرع في بناء عشرات الآلاف من الوحدات الاستيطانية لإحداث تغيير ديموغرافي في المدينة المقدسة من أجل إضفاء الطابع اليهودي عليها، كما أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي تُصعّدُ من إجراءاتها العدوانية ضد  المسجد الأقصى المبارك وذلك من خلال الاقتحامات اليومية المتكررة، والاعتداء والتضييق على رُوّاده من المصلين والمعتكفين والمرابطين وطلبة مصاطب العلم وطلاب مدراس الأقصى، وذلك بمنعهم من دخول المسجد الأقصى واعتقال بعضهم ومصادرة هوياتهم، وبالمقابل السماح للمستوطنين بدخوله في تلك الأوقات وتوفير الحماية لهم، مع العلم أن المسجد الأقصى المبارك مسجد إسلامي وحق خالصٌ للمسلمين وحدهم بقرار رباني وليس لغير المسلمين حق فيه.

وبهذه المناسبة فإننا نتوجه بالتحية والتقدير إلى أهلنا في مدينة القدس وفلسطينيي الداخل بصفة عامة وإلى سدنة المسجد الأقصى المبارك وحراسه  وطلاب مصاطب العلم والمصلين والمرابطين والمعتكفين وحملات البيارق بصفة خاصة على دورهم المُمَيَّز في الدفاع عن مسرى النبي- صلى الله عليه وسلم – والمدينة المقدسة.

نسأل الله أن يحفظ فلسطين والقدس والأقصى وسائر بلاد المسلمين من كل سوء

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

الدعاء.....