الخطبة الأولى :
أيها المسلمون :
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم : {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} .
إننا نعيش في ظلال شهر كريم هو شهر رجب وهو من الأشهر الحُرُم كما جاء في قوله سبحانه وتعالى : {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ }، ولشهر رجب في التاريخ شأن عظيم وهو من الشهور الحُرُم، فقد أخرج الإمام البخاري في صحيحه أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال : ( إنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ، ثَلاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ ) .
أيها المسلمون :
من المعلوم أن شهر رجب من الشهور الحافلة بالذكريات الإسلامية الخالدة، ومن هذه الذكريات:
الهجرة الأولى إلى الحبشة: وكان ذلك لمّا رأى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ما يُصيب أصحابه من البلاء، قال لهم : لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإنّ بها ملكاً لا يُظلَم عنده أحد، وهي أرضُ صِدق، حتى يجعل الله لكم فرجاً مِمَّا أنتم فيه ، فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم- إلى أرض الحبشة، فكانت أوّل هجرة كانت في الإسلام، وكان مخرجهم في شهر رجب من السنة الخامسة للبعثة.
وكان أول من خرج من المسلمين عثمان بن عفان معه امرأته رقية بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،... بالإضافة إلى عدد من الصحابة الكرام – رضي الله عنهم أجمعين-، فكان هؤلاء العشرة أول من خرج من المسلمين إلى أرض الحبشة، ثم خرج جعفر بن أبي طالب – رضي الله عنه -، وتتابع المسلمون حتى اجتمعوا بأرض الحبشة، فكان جميع من لحق بأرض الحبشة وهاجر إليها من المسلمين ثلاثة وثمانين رجلاً .
وعاد المهاجرون إلى وطنهم بعد سنوات، ونحن نقول : أما آن للمهاجر أن يعود إلى أرض الآباء والأجداد.
كما ذكرت كتب السيرة أن غزوة تبوك كانت في شهر رجب سنة تسع للهجرة ، وتسمى هذه الغزوة بغزوة العسرة للضيق الذي كان به المسلمون وشدة الحر، وكان رسول الله-صلى الله عليه وسلم- قَلَّما يخرج في غزوة إلا كَنَى عنها ، وورَّى بغيرها ، إلا ما كان من غزوة تبوك فإنه بينها للناس؛ لبعد الشُّقة وشدة الزمان وكثرة العدو، وقد ظهر المنافقون في هذه الغزوة فاعتذروا عن عدم الذهاب، بينما جاء البكاؤون إلى الرسول – صلى الله عليه وسلم- وطلبوا منه أن يحملهم حتى يجاهدوا إلا أنه لم يجدْ ما يحملهم عليه فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع.
لقد حرص رسولنا – صلى الله عليه وسلم – على فتح بلادنا فلسطين، حيث كانت خطة متكاملة وضعها النبي – عليه الصلاة والسلام – ، وواصلها أبو بكر – رضي الله عنه- واكتملت في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه - .
أيها المسلمون :
ومن الذكريات الخالدة في هذا الشهر المبارك فتح صلاح الدين الأيوبي للقدس، حيث هيأ الله سبحانه وتعالى الأسباب للقائد/ صلاح الدين الأيوبي – رحمه الله - لفتح مدينة القدس وتحريرها من الإفرنج الصليبيين، وكان ذلك في يوم الجمعة السابع والعشرين من شهر رجب لسنة 583هـ .
كما يتذكر المسلمون في شهر رجب من كل عام ذكرى من أعز الذكريات، إنها ذكرى الإسراء والمعراج، وقد تحققت هذه المعجزة في شهر رجب قبل الهجرة النبوية الشريفة، فحادثة الإسراء من المعجزات والمعجزات جزء من العقيدة الإسلامية، لذلك فإن ارتباط المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها بالأقصى والقدس وفلسطين هو ارتباط عقدي، وليس ارتباطاً انفعالياً عابراً ولا موسمياً مؤقتاً.
وفي الثامن والعشرين من شهر رجب كان سقوط الخلافة الإسلامية، حيث تمر بنا في هذه الأيام الذكرى السادسة والتسعين لسقوط الخلافة الإسلامية التي جمعت المسلمين في إطار سياسي واحد، وبعد ذلك تحولت بلاد المسلمين إلى دويلات عديدة متفرقة .
لقد بشر رسولنا – صلى الله عليه وسلم – بعودة الخلافة على منهاج النبوة في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن حذيفة بن اليمان – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : ( تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَاضًّا فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا جَبْرِيًّا فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلافَةً عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، ثُمَّ سَكَتَ )، وقد بين – صلى الله عليه وسلم – أن الخلافة الإسلامية في آخر الزمان ستكون في بيت المقدس بفلسطين كما جاء في الحديث الذي أخرجه أبو داود في سننه أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال :(يَا ابْنَ حَوَالَةَ، إِذَا رَأَيْتَ الْخِلافَةَ قَدْ نَزَلَتْ أَرْضَ الْمُقَدَّسَةِ فَقَدْ دَنَتْ الزَّلازِلُ وَالْبَلابِلُ " البلابل: الهموم والأحزان" وَالأُمُورُ الْعِظَامُ، وَالسَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْ النَّاسِ مِنْ يَدِي هَذِهِ مِنْ رَأْسِكَ).
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة ، فيا فوز المستغفرين استغفروا الله ....
الخطبة الثانية :
أيها المسلمون :
يوافق يوم الاثنين القادم السابع عشر من شهر أبريل ( نيسان ) يوم الأسير الفلسطيني ، وهذه المناسبة من أهم المناسبات التي تجمع الفلسطينيين وتوحدهم ، فقضية الأسرى من القضايا التي يجمع عليها شعبنا الفلسطيني بكل فصائله وفي جميع أماكن تواجده، حيث يتابع الفلسطينيون بكل دقة هذا الملف ويتمنون أن يأتي اليوم الذي يخرج فيه جميع الأسرى والمعتقلين من سجون الاحتلال.
ومن المعلوم أن أسرانا البواسل سيبدأون إضرابًا عن الطعام ابتداء من يوم الاثنين القادم ، رداً على الإجراءات التعسفية واللإنسانية التي تقوم بها سلطات الاحتلال الإسرائيلي بحقهم، حيث إن أسرانا الأبطال محرومون من أبسط حقوقهم في زيارة الأهل والأقارب، وحقهم في التعليم، وفي العلاج، ومن المعلوم أن سلطات الاحتلال تُمْعِنُ وَتُصَعِّدُ من إجراءاتها ضد الأسرى لتفتّ في عضدهم وَتُثبط من معنوياتهم، لكنّ هؤلاء الأبطال أبوْا إلا أن يُكملوا المشوار الذي بدأوه نحو الحرية، معلنين بدء حرب الأمعاء الخاوية، لتحقيق أبسط حقوق الأسرى، ولإسماع صوتهم للعالم الذي يدعى الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان .
إن سلطات الاحتلال تَحْرِمُ أسرانا البواسل من حقوقهم المشروعة وعلى رأسها إطلاق سراحهم، فهؤلاء الأسرى أُسِروا وهم يدافعون عن قضيتهم العادلة، ورغم ذلك فإنها تحرمهم من أبسط الحقوق التي نَصّت عليها الشرائع السماوية والاتفاقيات الدولية والتي تدعو إلى احترام الأسرى ومعاملتهم معاملة حسنة، ومن الجدير بالذكر أن الإجراءات التي تقوم بها سلطات الاحتلال الإسرائيلي للتضييق على أسرانا البواسل مخالفة لكل الأعراف والقوانين الدولية وحقوق الإنسان.
أيها المسلمون :
إننا نقف في هذا اليوم الوطني إجلالا وإكباراً لآلاف الأسرى الذين ضحوا بأغلى ما يملكون من أجل الوطن ، وعملوا جاهدين لتحقيق حلمهم الأكبر وهو تحرير الأرض والإنسان، ولم تُثْنِ من عزيمتهم وإرادتهم تلك السنوات الطويلة من القهر والحرمان وظلم السجان .
إنَّ هذه الشريحة العزيزة على قلوبنا قد ضحَّت بالغالي والنفيس في سبيل حرية وطننا الغالي فلسطين ، فهؤلاء هم الأبطال الغرُّ الميامين، يذكِّرني أسرانا البواسل وحبهم لوطنهم وإخلاصهم لقضيتهم بموقف الصحابي الجليل زيد بن الدثنة – رضي الله عنه-، فقد سُئل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- :كيف كان حبُّكم لرسول الله- صلى الله عليه وسلم-؟ فقال: (والله إنَّ رسول الله كان أحبَّ إلينا من آبائنا وأمهاتنا وفلذات أكبادنا، وكان أحبَّ إلينا من الماء البارد على الظمأ)، وانتشر هذا الحبّ بين صفوف المؤمنين وأصبح ديدنهم والعلامة الدالة عليهم والصفة البارزة فيهم، حتى شهد بذلك الحب زعيم مكة حينئذ أبو سفيان بن حرب- والفضل ما شهدت به الأعداء- وقال كلمته المشهورة: (والله ما رأيتُ أحداً يُحِبُّ أحداً كحبِّ أصحابِ محمدٍ لمحمد)، متى قالها ومتى نطق بها ؟ حينما جيء بزيد بن الدثنة أسيراً لِيُقْتلَ ، فقال له أبو سفيان: أناشدك الله يا زيد أَتُحِبّ أن تعود معافى لأهلك وولدك؟! وأن يُؤتى بمحمد هنا في مكانك ليقتل؟! فغضب زيدٌ أشدَّ الغضب، وقال: (والله ما أحبُّ أن أرجع سالماً لأهلي وأن يُشَاكَ محمد بشوكة في أصبعه)، وأنشد الشاعر قائلاً :
أَسَرَتْ قُرَيْشٌ مُسْلِماً فِي غَـزْوَةٍ فَمَضَى بِلاَ وَجَلٍ إِلَى السَّيَّافِ
سَأَلُوهُ هَلْ يُرْضِيكَ أَنَّكَ سَالِـمٌ وَلَكَ النَّبِيُّ فِدَىً مِنَ الإِتْلاَفِ
فَأَجَابَ كَلاَّ لاَ نَجَوْتُ مِنَ الرَّدَى وَيُصَابُ أَنْفُ مُحَمَّدٍ بِرُعَافِ
أيها المسلمون :
لقد ضرب أسرانا البواسل أروع الأمثلة في حبهم لوطنهم وعقيدتهم رغم القيد وظلم السجان، فهم يعيشون آلام وآمال شعبهم، حيث جَسَّدوا حقيقة الشعب الفلسطيني بوحدتهم داخل السجون واتفاقهم على وثيقة الأسرى للوحدة ، لذلك نقول لأبناء شعبنا الفلسطيني وقادة الفصائل الأكارم : إنّ خيرَ تكريم للأسرى هو تلبية نداءاتهم والاستجابة لاستغاثاتهم بضرورة الوحدة وتنفيذ وثيقتهم التي تم الاتفاق عليها، والعناية بأسرهم وذويهم.
أملنا في شعبنا الفلسطيني وفى أحرار العالم أن تكون قضية الأسرى محور اهتمامهم ، وألاَّ يَنْصَبّ عملنا على يوم الأسير فقط أو عند ارتقاء شهداء في صفوف الأسرى ، فقضية الأسرى تحتاج إلى جهد الجميع وفى كل الأوقات حتى نُوفى هؤلاء الأبطال جزءًا يسيراً من حقهم علينا .
وأقول لأسرانا البواسل : نحن معكم ولن نترككم وحدكم في المواجهة ولن نتخلى عنكم حتى يُنعم الله عليكم بالحرية من سجون الاحتلال إن شاء الله؛ لتساهموا في بناء هذا الوطن الغالي كما ساهمتم في الذود عنه ، فالليل مهما طال فلا بُدَّ من بزوغ الفجر وإن الفجر آت بإذن الله ، ويسألونك متى هو ؟ قل عسى أن يكون قريباً.
نسأل الله أن يجعل فرجكم قريباً ، اللهم آمين ... يا رب العالمين
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين
الدعاء.....