الخطبة الأولى :
أيها المسلمون :
يقول الله تعالى في كتابه الكريم : (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).
من المعلوم أن مدينة القدس أرض مباركة مقدسة مجبولة بدماء الصحابة والتابعين والأجداد والآباء ، وهي من أقدس المدن وأشرفها، ولها في قلوب المسلمين جميعا مكانة سامية، فلمدينة القدس وغرة جبينها المسجد الأقصى المبارك مكانة مميزة في الإسلام، جاء التنويه بها في القرآن الكريم وفي السنة النبوية الشريفة، وتجلت كذلك في مشاعر المسلمين وعواطفهم الدينية، وفي تعلقهم القلبي والروحي بهذه المدينة المباركة، وظهرت هذه المكانة أيضاً عبر التاريخ من خلال حرص المسلمين على فتحها وتطهيرها من دنس المحتلين، كما عملوا على صيانة معالمها والمحافظة عليها ، فهي عزيزة علينا دنيا ودينا، قديماً وحديثاً ، ولن نفرط فيها أبداً مهما كانت المغريات ومهما عظمت التهديدات .
أيها المسلمون :
لقد ربط الله سبحانه وتعالى بين المسجد الحرام بمكة المكرمة والمسجد الأقصى المبارك بالقدس في هذه الآية الكريمة التي افتتحت بها سورة الإسراء، حتى لا تهون عندنا حرمة المسجد الأقصى المبارك الذي بارك الله حوله، وحتى لا يفصل المسلم بين هذين المسجدين ولا يفرط في واحد منهما.
فمدينة القدس أرض النبوات ...أرض الذكريات، فيها الطائفة المنصورة كما قال – صلى الله عليه وسلم - ، وفيها تاريخ أمتنا المشرق في حطين وعين جالوت، وهي وديعةُ رسولنا محمدٍ – صلى الله عليه وسلم - عنْدَنا، وأمانةُ أمير المؤمنين عُمَر بن الخطاب – رضي الله عنه- في ذِمَمِناَ، وَعَهْدُ الإسلامِ في أَعْناقِنا، فرحاب القدس الشريف مثل رحاب مكة المكرمة والمدينة المنورة.
أيها المسلمون :
إن قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالاعتراف بالقدس المحتلة عاصمة لدولة الاحتلال الإسرائيلي ونقل السفارة الأمريكية إليها، قرار جائر وظالم يرفضه الشعب الفلسطيني بكل مكوناته كما ترفضه الأمة العربية والإسلامية، وهذا القرار كشف وجه أمريكا القبيح ويشبه إلى حد كبير وعد بلفور المشؤوم "يوم أعطى من لا يملك من لا يستحق"، ونحن نرد على الرئيس الأمريكي ونقول له : إن مدينة القدس عاصمة الدولة الفلسطينية مدينة فلسطينية عربية إسلامية، فلا قيمة لفلسطين بدون القدس ولا قيمة للقدس بدون المسجد الأقصى المبارك، وقد كانت القدس وما زالت وستبقى مدينة فلسطينية عربية إسلامية إلى يوم القيامة.
أيها المسلمون :
إن الشعب الفلسطيني لن يسمح بتمرير هذا القرار الجائر ، فقد جمع الفلسطينيون شملهم ووحدوا كلمتهم؛ لأن قضية القدس تجمع الفلسطينيين كما تجمع أبناء الأمتين العربية والإسلامية، وما زلنا نذكر وقفة أهلنا المقدسيين في منتصف شهر يوليو الماضي عندما قررت سلطات الاحتلال الإسرائيلي تركيب الكاميرات الخفية والبوابات الإلكترونية، حيث وقفوا سداً منيعاً أمام تنفيذ هذا المخطط الإجرامي، فقد تصدوا رجالاً ونساءً وشيباً وشباناً مسلمين ومسيحيين لهذا القرار الظالم، وخلفهم كل الفلسطينيين والعرب والمسلمين، حيث أدوا صلواتهم في شوارع وأزقة المدينة المقدسة، وأجبروا سلطات الاحتلال على رفع هذه البوابات وإزالة الكاميرات، ودخلوا المسجد الأقصى مكبرين مهللين، فعلى هذه الأرض المباركة ستتحطم جميع المؤامرات التي أعلن عنها ترامب ومن يسير فى ركبه.
إن إعلان الرئيس الأمريكي ترامب ليس له أي قيمة قانونية؛ لأنه مناقض للقانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة وسائر المؤسسات الدولية التي تعتبر مدينة القدس جزءاً من الأراضي الفلسطينية المحتلة، وما قرار منظمة اليونسكو قبل أسابيع إلا دليل على ذلك .
أيها المسلمون :
إن مدينة القدس مدينة فلسطينية عربية إسلامية، وهذا ما أكدته شريعتنا الإسلامية الغراء كما جاء في كتاب الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم - ، فنحن نأخذ تاريخنا من كتاب ربنا وسنة نبينا – صلى الله عليه وسلم - ، وعلى الرغم من ذلك فإننا نجد أعداء الإسلام يحاولون تشويه تاريخنا والتشكيك في عقيدتنا، حيث يزعم بعض المستشرقين أن القدس و فلسطين لم تَرِِدَا مُطْلقاً في القرآن الكريم، ونحن هنا نَردّ على هذه المزاعم الباطلة قائلين: إن القدس وفلسطين وردتا في القرآن الكريم في مواضع كثيرة، منها: قوله تعالى: }يَٰقَوۡمِ ٱدۡخُلُواْ ٱلۡأَرۡضَ ٱلۡمُقَدَّسَةَ ٱلَّتِي كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمۡ{، قال المفسرون: المراد بالأرض المقدسة: هي أرض فلسطين، وكذلك قوله تعالى: }وَإِذۡ قُلۡنَا ٱدۡخُلُواْ هَٰذِهِ ٱلۡقَرۡيَةَ فَكُلُواْ مِنۡهَا حَيۡثُ شِئۡتُمۡ رَغَدٗا{، فقد ذهب جمهور المفسرين إلى أن المراد بالقرية: "بيت المقدس".
كما يزعم المستشرقون بأن القدس ليست مهمة بالنسبة للمسلمين حيث تأتي في المرتبة الثالثة بعد المسجد الحرام والمسجد النبوي، ونحن هنا نرد عليهم قائلين: إن الله -عز وجل- قد ربط بين المسجد الحرام بمكة المكرمة والمسجد الأقصى المبارك بمدينة القدس برباط وثيق في الآية التي قرأناها قبل قليل وهي الآية الأولى من سورة الإسراء، كما ربط الرسول -صلى الله عليه وسلم- المسجد الأقصى المبارك بشقيقيه المسجد الحرام والمسجد النبوي في قوله- صلى الله عليه وسلم -: "لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إلَى ثَلاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّـمَ- وَمَسْجِدِ الأَقْصَى".
فهذا يدل على الاهتمام الكبير الذي أولاه الرسول -عليه الصلاة والسلام- للمسجد الأقصى المبارك، حيث ربط قيمته وبركته مع قيمة شقيقيه المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف وبركتهما .
أيها المسلمون :
ويزعم بعض المستشرقين أيضاً بأن العرب والمسلمين قد أهملوا المدينة المقدسة عبر التاريخ، ونحن نقول لهم: إنَّ الرسول -عليه الصلاة والسلام- لم يخرج من الجزيرة العربية إلا إلى القدس، وكان ذلك في رحلة الإسراء والمعراج يوم صَلَّى -عليه الصلاة والسلام- إماماً بالأنبياء والمرسلين -عليهم الصلاة والسلام- في المسجد الأقصى المبارك، كما أن سيدنا عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – الذي فُتِحَت في عهده مصر ودمشق وبغداد لم يذهب لاستلام مفاتيح أية عاصمة، وإنما جاء إلى القدس في إشارة منه – رضي الله عنه – إلى مكانة هذه المدينة في عقيدة الأمة، كما جاءها وَعَمَّرها ودُفِن فيها عشرات الصحابة الكرام – رضي الله عنهم أجمعين-، وقد اهتم المسلمون عبر التاريخ بالمدينة المقدسة حيث وجَّهوا جُلَّ اهتمامهم للعناية بالمسجد الأقصى والصخرة المشرفة، وإقامة المؤسسات التعليمية والتكايا والزوايا في جميع أحياء المدينة المقدسة، في دلالة واضحة على مدى اهتمام المسلمين بهذه المدينة المقدسة عبر التاريخ، كما لا ننسى تحرير المدينة المقدسة على يد القائد المسلم صلاح الدين الأيوبي - رحمه الله -.
هذه هي مدينتنا المقدسة، فمدينة القدس جزء لا يتجزأ من أرض فلسطين المباركة ، كانت ومازالت وستبقى إن شاء الله مدينة فلسطينية عربية إسلامية إلى يوم القيامة .
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة ، فيا فوز المستغفرين استغفروا الله ....
الخطبة الثانية :
أيها المسلمون :
إن مدينة القدس في هذه الأيام تتعرض لمحنة من أشدّ المحن وأخطرها، فالمؤسسات فيها تُغلق ، والشخصيات الوطنية تُلاحق ، والبيوت تُهدم في سلوان والشيخ جراح وشعفاط والعيزرية وغيرها ، والأرض تُنهب في كل مكان، والهويات تُسحب، وجدار الفصل العنصري يلتهم الأرض، وكل معلم عربي يتعرض لخطر الإبادة والتهويد، وسلطات الاحتلال تشرع في بناء عشرات الآلاف من الوحدات الاستيطانية لإحداث تغيير ديموغرافي في المدينة المقدسة من أجل إضفاء الطابع اليهودي عليها ، والعالم وللأسف يُغلق عينيه ، ويصمّ أذنيه عما يجري في القدس، وكأن القدس خارج حسابات المجتمع الدولي.
لقد شرف الله سبحانه وتعالى شعبنا الفلسطيني بالمرابطة في هذه البلاد، لذلك يجب عليهم أن يجمعوا شملهم ويرصوا صفوفهم ويوحدوا كلمتهم، لأنه بوحدتهم تتحطم أحلام المحتلين وتفشل مخططاتهم، فالوحدة هي الطريق الوحيد للمحافظة على مقدساتنا ، فالقدس لم تحرر عبر التاريخ إلا بالوحدة ، والعالم اليوم لا مكان فيه للضعفاء ولا للمتفرقين ، فيوم أن كانت أمتنا قوية متحدة طأطأ لها الجميع إجلالاً واحتراماً ، ويوم تفرقت الأمة عدت عليها الذئاب من كل جانب ، فاحتلت أرضها ، ونهبت ثرواتها ، وصادرت خيراتها .
إن مسئولية الدفاع عن مدينة القدس وقلبها المسجد الأقصى المبارك ليست مسئولية الشعب الفلسطيني وحده وإن كان هو رأس الحربة في الذود عنه وحمايته، إنما هي مسئولية العرب والمسلمين جميعاً في مساندة هذا الشعب، والوقوف بجانبه ودعم صموده للمحافظة على أرضه ومقدساته، خصوصاً في هذه الأيام التي تتعرض فيها مدينة القدس والمسجد الأقصى المبارك لمؤامرات خبيثة، فالمسجد الأقصى المبارك وقف إسلامي، وما فوقه وما تحته وقف إلى يوم القيامة، لذلك فإننا نطالب المجتمع الدولي بضرورة فضح جرائم الاحتلال الإسرائيلي، والوقوف ضد إجراءاته التهويدية ضد مدينة القدس والمسجد الأقصى المبارك وكافة المقدسات، وكذلك تزييفه للتاريخ والحضارة ومحاولته تغيير الآثار الإسلامية في هذه المدينة المقدسة.
أيها المسلمون :
إننا ندعو أبناء الأمتين العربية والإسلامية إلى ضرورة إدراك الأخطار المحدقة بالمدينة المقدسة وقلبها المسجد الأقصى، وألا يتركوا هذه المدينة وحيدة أمام هذا المحتل المجرم، ونطالبهم بالوقوف إلى جانب المقدسيين لحماية المسجد الأقصى والقدس من المخاطر الإسرائيلية، كما نطالبهم بضرورة العمل على إنقاذ المدينة المقدسة وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي لها، وضرورة دعم المرابطين في المدينة المقدسة استجابة للدعوة النبوية كما جاء في الحديث الشريف الذي روته ميمونة مولاة النبي -صلى الله عليه وسلم- قالت: (يَا رَسُوَلَ اللهِ، أَفْتِناَ فِي بَيْتِ الْمَقِدْسِ، قَالَ: أَرْضُ الْمَحْشَر ِو الْمَنْشَر، ائْتُوهُ فَصَلُّوا فيِه، فَإِنَّ صَلاَةً فِيِه كَأَلْف صَلاَة فِي غَيْرِهِ، قَلتُ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أَتَحَمَّلَ إليه؟ قال: فَتُهْدِي لَهُ زَيْتاً يُسْرَجُ فِيهِ، فَمَنْ فَعَلَ ذلكَ فَهُوَ كَمَنْ أَتَاهُ)، لذلك لابُدَّ من العمل على تثبيت المقدسيين في مدينتهم من خلال تقديم العون والمساعدة لهم بإقامة المشاريع الإسكانية لهم ، ودعم مؤسساتهم المختلفة داخل مدينة القدس وذلك في شتى المجالات، التعليمية: من مدارس ومعاهد وجامعات، والاجتماعية: بدعم الجمعيات الخيرية المختلفة والأسر الفلسطينية في مدينة القدس المحتلة، والاقتصادية: بدعم المشاريع التجارية والاقتصادية لأبناء القدس، والصحية: بدعم المستشفيات والمراكز والمؤسسات الصحية فيها، ومساعدة العمال المقدسيين، ودعم صمود أهلها بكل الطرق التي تؤهلهم للوقوف والتصدي لهذه الهجمة الإسرائيلية الشرسة الهادفة لصبغ المدينة المقدسة بالصبغة اليهودية الاحتلالية، كما يجب عليهم تقديم الدعم والمساعدة للمرابطين و طلاب حلقات مصاطب العلم وحراس وسدنة المسجد الأقصى المبارك الذين يشكلون رأس الحربة في الدفاع عن المسجد الأقصى المبارك .
أيها المسلمون :
ورغم هذا القرار الأمريكي الظالم ستبقى مدينة القدس مدينة فلسطينية عربية إسلامية بصمود أهلها المرابطين والمدافعين عنها بالنيابة عن الأمتين العربية والإسلامية، فهذه المدينة المقدسة لفظت المحتلين عبر التاريخ وستلفظ هذا المحتل إن شاء الله .
إن القدس تقول لكم: سوف يتراجع الظلم، وينهزم الأعداء، فالليل مهما طال فلا بُدَّ من بزوغ الفجر، وإن الفجر آتٍ بإذن الله رغم أعداء شعبنا وأمتنا، ويسألونك متى هو؟ قل عسى أن يكون قريبا.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين
الدعاء.....