2023-06-11

في ذكرى يوم الأرض
2018-03-23

الخطبة الأولى

أيها المسلمون :

            أخرج الإمام الترمذي في سننه أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال : "وَاللَّهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ، وَلَوْلا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ".

تمر بنا في هذه الأيام ذكرى يوم الأرض، والتي تأتي في الثلاثين من شهر مارس (آذار) من كل عام، هذه الذكرى التي تشكل معلماً بارزاً في التاريخ النضالي للشعب الفلسطيني باعتباره اليوم الذي جدّد فيه الفلسطينيون تمسكهم بأرض آبائهم وأجدادهم، وتشبثهم بهويتهم الوطنية والقومية، وحقهم في الدفاع عن وجودهم رغم عمليات القتل والإرهاب والتنكيل التي تمارسها سلطات الاحتلال بحق الشعب الفلسطيني بهدف إبعاده عن أرضه ووطنه.

ومن المعلوم أن هذه الهبة كانت في الثلاثين من شهر مارس (آذار) سنة 1976نتيجة قيام سلطات الاحتلال الإسرائيلي بمصادرة نحو( 21 )ألف دونم من أراضي عرّابة وسخنين ودير حنّا وعرب السواعد وغيرها؛ لتخصيصها للمستوطنات في سياق مخطّط تهويد الجليل، واتخذت الهبَّة شكل إضراب شامل ومظاهرات شعبية عارمة، أعملت خلالها قوات الاحتلال قتلاً وإرهاباً بالفلسطينيين، مما أدى إلى  استشهاد عدد منهم، بالإضافة لعشرات الجرحى والمصابين والمعتقلين.

أيها المسلمون :

إن فلسطين أرض مباركة مقدسة، مجبولة بدماء الآباء والأجداد، وهي أرض الإسراء والمعراج، وأرض المحشر والمنشر، وقد أخذت مكانتها من وجود المسجد الأقصى المبارك أولى القبلتين، وثاني المسجدين، وثالث الحرمين الشريفين بالنسبة للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، فقد جعله الله توأماً لشقيقه المسجد الحرام بمكة المكرمة كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}، ففلسطين أرض النبوات، وتاريخها مرتبط بسير الرسل الكرام-عليهم الصلاة والسلام-، وهي عزيزة علينا، ديناً ودنيا، قديماً وحديثاً، ولن نفرط فيها أبداً مهما كانت المغريات، ومهما عظمت التهديدات، فهي الأرض التي ولدنا على ثراها، ونأكل من خيرها، ونشرب من مائها، ونستظل بظلها.

وانطلاقاً من قول رسولنا – صلى الله عليه وسلم- وهو يخاطب وطنه مكة المكرمة: "وَاللَّهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ، وَلَوْلا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ"، فقد أحبَّ الفلسطينيون وطنهم، اقتداء بنبيهم محمد – صلى الله عليه وسلم– الذي عَلَّم الدنيا كلها حب الأوطان والأماكن المباركة والوفاء لمسقط الرأس، حيث يظهر حبه – صلى الله عليه وسلم – لمكة، وحرصه على البقاء فيها لا يبرحها، لولا أنه – صلى الله عليه وسلم - أُخرج منها مضطراً مُرغماً.

أجل فما من الوطن بُدٌّ، وما للإنسان عنه من منصرف أو غنى، في ظلِّه يأتلف الناس، وعلى أرضه يعيش الفكر، وفي حماه تتجمع أسباب الحياة، وما من ريب أن ائتلاف الناس هو الأصل، وسيادة العقل فيهم هي الغاية، ووفرة أسباب العيش هو القصد مما يسعون له ويكدحون، ولكن الوطن هو المهد الذي يترعرع فيه ذلك كله، كالأرض هي المنبت الذي لا بُدَّ منه للقوت والزرع والثمار.

وهل ينسى الإنسان وطنه؟ وهل ينسى الأرض التي وُلد على ثراها، وأكل من خيرها، وشرب من مائها، واستظل بظلِّها؟، وما أحسن ما قال الشاعر:

بلادٌ أَلِفْنـاهَا عَلى كُلِّ حَالةٍ              وقَدْ يُؤلَفُ الشيءُ الذى ليسَ بالحَسَنْ

 وَنَسْتَعذَبُ الأرضَ التِي لاَ هَواءَ بِها          ولا ماؤُهَـا عَـذْبٌ ولكِنَّها وَطَـنْ

أيها المسلمون :

إن محبة الوطن دليل أصالة المرء وَنُبْله، كما حكى الأصمعي عن أعرابي يقول: "إذا أردتَ أن تعرف الرجل، فانظر كيف تحنُّنه إلى أوطانه، وتشوُّقه إلى إخوانه، وبكاؤه على ما مضى من زمانه"؛ لأن ذلك دليل الوفاء، وأصالة الآباء، وقد كان العرب يتمدحون بالاعتزاز بالوطن ويرونه من مفاخرهم الكبيرة، كما قال ابن الرومي:

ولي وطنٌ آليتُ ألا أبيعَـهُ           وألاّ أرى غيري له الدهرَ مالكا

عهدْتُ به شرخَ الشبابِ ونعمةً          كنعمةِ قومٍ أصبحوا في ظِلالكا

 كما أن حب الوطن من الإيمان، والعيش فيه مع قسوة الحياة يُعَدُّ نعمة عظيمة لا يعرفها إلا من فقدها، فكيف إذا كان الوطن هو فلسطين الحبيبة، الأرض المباركة،الأرض المقدسة، الأرض التي اجتمع فيها الأنبياء والمرسلون – عليهم جميعاً صلوات الله وتسليماته – في ليلة الإسراء والمعراج، يوم صلّى بهم رسولنا – صلى الله عليه وسلم- إماماً في المسجد الأقصى المبارك.

أيها المسلمون :

 من المعلوم أن بلادنا فلسطين وعاصمتنا الأبدية مدينة القدس تحتل مكانة مميزة في نفوس العرب والمسلمين، حيث تهفو إليها النفوس وتشد إليها الرحال من كل أنحاء المعمورة ، ففيها المسجد الأقصى المبارك أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين الشريفين ، وفيها التاريخ الإسلامي العريق الذي يزرع نفسه بقوة في كل شارع من شوارعها، وكل حجر من حجارتها ، وكل أثرٍ من آثارها، وقد ظهرت مكانة القدس عبر التاريخ من خلال حرص المسلمين على فتحها وذلك في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-، ثم قيامهم بتحريرها بقيادة القائد/ صلاح الدين الأيوبي- رحمه الله-، كما عملوا على صيانة معالمها والمحافظة عليها .

 إن مدينة القدس بقعة مباركة، بل هي من أقدس البلاد وأشرفها، فهي أرض النبوات، وتاريخها مرتبط بِسِيَرِ الرسل الكرام -عليهم الصلاة والسلام-،وهي القبلة الأولى، ومنتهى الإسراء ومنطلق المعراج إلى السماء، وأرض المحشر والمنشر، كما جاء في الحديث الذي روته  ميمونة  â€“ رضي الله عنها- قالت : "يَا رَسُوَلَ اللهِ، أَفْتِناَ فِي بَيْتِ الْمَقِدْسِ، قَالَ:" أَرْضُ الْمَحْشَر ِوالْمَنْشَر، ائْتُوهُ فَصَلُّوا فيِه، فَإِنَّ صَلاَةً فِيِه كَأَلْف صَلاَة فِي غَيْرِهِ"، قُلتُ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أَتَحَمَّلَ إليه؟ قال:" فَتُهْدِي لَهُ زَيْتاً يُسْرَجُ فِيهِ، فَمَنْ فَعَلَ ذِلكَ فَهُوَ كَمَنْ أَتَاهُ".

ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة ، فيا فوز المستغفرين استغفروا الله .  

 الخطبة الثانية :

أيها المسلمون :

 تأتي ذكرى يوم الأرض هذا العام مع ازدياد وتيرة الهجمة الإسرائيلية الشرسة على مدينة القدس بصفة عامة والمسجد الأقصى بصفة خاصة ، حيث تتعرض مدينة القدس في هذه الأيام لمؤامرة من أشد المؤامرات وأخطرها،  فالبيوت تُهدم في سلوان وشعفاط والشيخ جراح وفي سائر أنحاء المدينة المقدسة، والأرض تُنهب وتُصادر لتقام عليها المستوطنات، والمؤسسات على اختلافها تُغلق كبيت الشرق، والغرفة التجارية وغير ذلك،  والهويات تُسحب من أجل تفريغ المدينة من سكانها الأصليين، والشخصيات الدينية والوطنية والاعتبارية تُلاحق، وتُمنع من دخول المسجد الأقصى المبارك بصفة خاصة ومدينة القدس بصفة عامة، وجدار الفصل العنصري يلتهم الأرض، وكل معلم عربي يتعرض لخطر الإبادة والتهويد، وسلطات الاحتلال تشرع في بناء عشرات الآلاف من الوحدات الاستيطانية لإحداث تغيير ديموغرافي في المدينة المقدسة من أجل إضفاء الطابع اليهودي عليها، ورغم كل هذه الاعتداءات الإجرامية فإن شعبنا الفلسطيني – والحمد لله - لا يزال يُثبت في كل يوم بسالةً وقوة وتضحية وتصديًّا للمحتل البغيض، في دفاع منقطع النظير عن أرض فلسطين المباركة، أرض الإسراء والمعراج ومهد الرسالات، ففلسطين لا يمكن أن تُنسى، أو تُترك لغير أهلها، مهما تآمر المتآمرون وخطَّط المحتلون، الذين يسعون لطمس طابعها العربي والإسلامي، ومحوِ معالمها التاريخية والحضارية ،  ففي كل يوم تدفن جرافات الاحتلال الصهيوني جزءاً عزيزاً من تراثنا ، كما تتهيأ معاول الهدم لتقويض جزء جديدٍ آخر ، إنهم يريدون لفلسطين عامة وعاصمتنا الأبدية مدينة القدس بصفة خاصة  أن تندثر وأن يندثر أهلها ، ولكن فلسطين والقدس  يجب أن تبقى عربية إسلامية.

أيها المسلمون :

  ومن الأمور المبشرة بالخير، والدالة على تعلق شعبنا الفلسطيني بوطنه فلسطين والقدس والأقصى، ما رأيناه من موقف مشرف لأهلنا في المدينة المقدسة الذين ضربوا أروع الأمثلة في الصبر والثبات أمام المحتل المتغطرس، فقد أثبتوا أنهم مع أهلنا من فلسطينيي الداخل على قدر المسؤولية، حيث أجبروا سلطات الاحتلال على إزالة البوابات الإلكترونية والكاميرات الخفية في شهر يوليو من العام الماضي،  وبذلك فهم يستحقون هذا الشرف الذي تحدث عنه النبي -صلي الله عليه وسلم- في العديد من الأحاديث الشريفة حول الطائفة المنصورة في فلسطين والقدس والأقصى.

كما عَبَّر شعبنا الفلسطيني والأمتان العربية والإسلامية عن رفضهم التام لقرار الرئيس الأمريكي  دونالد ترامب بالاعتراف بالقدس المحتلة عاصمة لدولة الاحتلال الإسرائيلي ونقل السفارة الأمريكية إليها ، فشعبنا الفلسطيني ومعه أبناء الأمتين العربية والإسلامية قد تصدَّوا لهذا القرار الظالم ولن يسمحوا بتمريره ، فقد جمع الفلسطينيون والعرب والمسلمون شملهم ووحدوا كلمتهم، لأن قضية القدس تجمع الفلسطينيين كما تجمع أبناء الأمتين العربية والإسلامية .

أيها المسلمون :

إن مدينة القدس  بحاجة إلي خطوات فعلية تُسهم في المحافظة على عروبتها وإسلاميتها ودعم صمود أهلها، فمدينة القدس احتلت عبر التاريخ مرات عديدة ولكنها لفظت المحتلين وستلفظ هذا المحتل إن شاء الله، هذه المدينة المقدسة في أَمسِّ الحاجة إلى أيِّ جُهْدٍ يُميِطُ اللّثام عما يجري من أعمال بشعة بحقها وتراثها وأهلها، والتي تشكل إهانة للإنسانية ووصمة عار في جبينها. 

إن مسئولية الدفاع عن فلسطين ومدينة القدس والمقدسات ليست مسئولية الشعب الفلسطيني وحده وإن كان هو رأس الحربة في الذود عنها وحمايتها، إنما  هي مسئولية العرب والمسلمين جميعاً  في العمل على تحرير المدينة المقدسة والمحافظة عليها ، ومساندة هذا الشعب والوقوف بجانبه ودعم صموده للمحافظة على أرضه ومقدساته، خصوصاً في هذه الأيام التي تتعرض فيها مدينة القدس والمسجد الأقصى المبارك لمؤامرات خبيثة.

وبهذه المناسبة فإننا نؤكد على تمسكنا بأرضنا المباركة فلسطين الحبيبة بصفة عامة ومدينة القدس والمسجد الأقصى المبارك بصفة خاصة ، و كذلك بكل مقدساتنا في ربوع فلسطين الغالية، كما نشدّد على تمسكنا بحقنا في العودة إلى أرض الآباء والأجداد ، هذا الحق المقدس لملايين الفلسطينيين في مختلف أرجاء المعمورة ، كما نؤكد على حقنا في إقامة دولتنا الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف ، وحقنا في تقرير المصير ، وخروج جميع  الأسرى والمعتقلين من سجون الاحتلال ؛  ليتنفسوا نسائم الحرية وليسهموا في بناء هذا الوطن كما أسهموا في الدفاع عنه .

نسأل الله أن يحفظ  بلادنا فلسطين ومقدساتنا من كل سوء.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين

الدعاء.....