الخطبة الأولى :
أيها المسلمون :
يقول الله تعالى في كتابه الكريم : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
يعيش المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها في ظلال شهر رمضان المبارك، شهر التسابيح والتراويح، شهر الصيام والقيام، هذا الشهر الذي خصه الله تبارك وتعالى بنزول القرآن الكريم فيه، ليكون هداية للناس وتبياناً لكل شيء وفرقاناً بين الحق والباطل، كما في قوله تعالى:{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}، فنحن اليوم نعيش الجمعة الثالثة من هذا الشهر المبارك، الذي أطلَّ علينا بخيراته وبركاته ، فقد فرض الله علينا صيام نهاره، وَسَنَّ لنا النبي – صلى الله عليه وسلم- قيام ليله، وحثنا على اغتنام الأوقات والأعمال الصالحة فيه ابتغاء مرضاة الله عز وجل ، ورغبة في جنته والنجاة من ناره، لذلك يجب على المسلمين أن يفرحوا لقدوم هذا الضيف الكريم، وأَنْ يُشَمِّرُوا عن ساعد الجدّ، وَيُوَطِّدوا العزم على صيام أيامه وقيام لياليه.
أيها المسلمون :
إن شهر رمضان مناسبة طيبة للتواصل والتراحم والتزاور بين المسلمين ، وفرصة عظيمة لعمل الخير والإكثار من صنائع المعروف، وإحيائه بقراءة القرآن وتأمل معانية ، ومداومة الذكر وإقامة الصلاة في المسجد والمُكْث فيه ما استطاع المسلم إلى ذلك سبيلاً ، ومن ثم تتضاعف أهمية رمضان بأجوائه الروحية، ليتخذ الإنسان منه فرصة صادقة كي يثوب إلى رشده، ليعود إليه صفاؤه الروحي والنفسي، فإحياء ليالي رمضان لا تكون بإضاعة الوقت في اللهو والسلوكيات التي لا تتفق وآداب الشهر الفضيل.
ومن المعلوم أن شهر رمضان خير كله، نهاره وليله، وأوله وأوسطه وآخره، فالمسلم في نهاره صائم وفي ليله قائم، ورمضان مجمع الفضائل فقد جمع من الفضائل والخيرات مالم يجمعه شهر من الشهور، ومن المعلوم أن للصيام منزلة رفيعة، فهو من أفضل العبادات و أجلِّ الطاعات كما جاء في قوله – صلى الله عليه وسلم - : " مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ "،و قوله– صلى الله عليه وسلم - : "مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"، وقوله– صلى الله عليه وسلم - أيضا:"مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"، وثواب الصيام لا يَتَقَيَّدُ بعددٍ معين، بل يُعطى الصائم أجره بغير حساب، كما جاء في الحديث أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- قال : (قال الله عزَّ وجل: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بهِ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ، فإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلا يَرْفُثْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَسْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ ، إني صائمٌ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، ولِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا، إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ بفِطْرِهِ وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بصَوْمِهِ).
أيها المسلمون :
إن شهر رمضان الذي نعيش في ظلال أيامه المباركة هو شهر الصدقات والزكوات، ومن المعلوم أن الحسنة تضاعف فيه كما جاء في الحديث الشريف : (من تَقَرَّبَ فيه بخَصْلَةٍ من الخير كان كَمَنْ أَدَّى فريضة فيما سواه، ومن أَدَّى فريضة فيه كان كَمَنْ أَدَّى سبعين فريضة فيما سواه)، لذلك فإن كثيراً من المسلمين يغتنمون حلول هذا الشهر المبارك لإخراج زكاة أموالهم فيه، رغبة في تحصيل الأجر العظيم والثواب الكبير، لذلك فإننا نناشد الموسرين والمُزكِّين والمُتَصدِّقين بضرورة إخراج زكاة أموالهم في هذه الأيام، حيث إننا نعيش ظروفاً اقتصادية صعبة، فجميل منهم أن يُخَصّصوا شيئاً من أموالهم للفقراء ولرعاية أسر الأيتام، وذلك بتقديم مساعدات شهرية للمساكين والمعوزين، ولطلاب المدارس والمعاهد والجامعات بدفع الأقساط المدرسية عنهم، وللمرضى بدفع التأمين الصحي، ودفع ثمن الكهرباء والماء عَمَّن لاعائل لهم ، ودعم ومساعدة المؤسسات الخيرية التي تُقدّم يدَ العون والمساعدة للأيتام والفقراء والعائلات المستورة.
ومن أشكال الصدقات والبرِّ خصوصاً في مثل هذه الأيام المباركة مساعدة الأسر المحتاجة بتوفير الطعام والغذاء لهم من خلال السلّة الغذائية، وبشراء الملابس لهم من خلال مشروع كسوة العيد، ومساعدة الضعفاء والفقراء واليتامى والثكالى والأرامل برسم البسمة على شفاههم، وإدخال السرور على قلوبهم، بما أفاء الله عليك من النعم، فإنَّ منع الزّكاة سبب مباشر لغضب الله.
أيها المسلمون :
في هذا الشهر المبارك وقعت أهم الأحداث الإسلامية، فما مِنْ معركة وقعت في شهر رمضان المبارك إلاَّ كان النصر فيها حليف المؤمنين المُوَحِّدين، لقربهم من الله سبحانه وتعالى في شهر الصيام وبعدهم عن الدنيا ، فكافأهم الله بنصره، حتى دانت لهم الدنيا وطأطأ لهم الجميع إجلالاً واحتراماً، ومن أشهر الانتصارات والفتوحات التي حدثت في هذا الشهر المبارك، غزوة بدر الكبرى ، وفتح مكة، ومعركة عين جالوت، وغير ذلك من الذكريات الخالدة.
إنّ شهر رمضان المبارك سجلٌ تاريخيٌّ حافلٌ بالأحداث العظام في تاريخ الإسلام، لذلك يجب على المسلمين أن يدرسوا تاريخهم المجيد لالتقاط العبر والعظات ، وصدق الله العظيم: { وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}، ومن هذه الدروس والعبر : أن النصر لا يكون إلا من عند الله سبحانه وتعالى، ووجوب الأخذ بالأسباب مع التوكل على الله سبحانه وتعالى ، وضرورة العمل بمبدأ الشورى، وفضل التضرع إلى الله سبحانه وتعالى والاستعانة به، وضرورة الثقة بالله، بأنه ما بعد العُسْر إلا اليسر ، وما بعد الضيق إلا الفرج، كما يجب علينا جميعاً رصُّ الصفوف والمحافظة على الوحدة ، فَمِنْ أسباب النصر تآلف القلوب ووحدة الصفوف، كما قال الشاعر:
كونوا جميعا يا بَنِيَّ إذا اعتـرى خَطْـبٌ ولا تَتَفرَّقوا أفْرادا
تأْبَى العِصِيُّ إذا اجتمعْن تَكَسُّرا وإذا افْتَرقْنَ تكسََّرتْ آحَادا
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة ، فيا فوز المستغفرين استغفروا الله ....
الخطبة الثانية :
أيها المسلمون :
مادمنا نتحدث عن الانتصارات في رمضان فلا بُدَّ أن نتحدث عن الأقصى والقدس والمقدسات ، فالمسجد الأقصى المبارك يتعرض في هذه الأيام لهجمة شرسة، فمن حفريات أسفله، إلى إقامة مترو للأنفاق أسفله أيضا، إلى بناء كنس بجواره، حيث تم بناء وافتتاح كُنُسٍ عديدة بجوار المسجد الأقصى المبارك ، ليكون مقدمة لهدم الأقصى لإقامة ما يُسمّى بالهيكل المزعوم بدلاً منه لا سمح الله، إلى منع سدنته وحراسه وأصحابه من الوصول إليه، ناهيك عن الاقتحامات المتكررة للمستوطنين بصورة شبه يومية لباحات المسجد الأقصى المبارك تحت حراسة قوات الاحتلال الإسرائيلي، وذلك لتأدية طقوسهم وشعائرهم التلمودية في ساحات المسجد، كما تعتدي قوات الاحتلال على طلاب مصاطب العلم، وتمنع المصلين من الوصول إليه، وتعمل على تهويد المدينة المقدسة من خلال هدم بيوتها وطرد أهلها وبناء المستوطنات فيها، والعالم وللأسف يغلق عينيه، ويصم أذنيه عما يجري في مدينة القدس.
إننا نحذر من النتائج المترتبة على ما تقوم به سلطات الاحتلال الإسرائيلي من اعتداءات ضد المسجد الأقصى المبارك والمقدسات والأماكن الأثرية والتاريخية والمقابر الإسلامية في مدينة القدس بصفة خاصة ، وفي فلسطين بصفة عامة ، كما نحمل الحكومة الإسرائيلية مسؤولية هذا العمل الإجرامي ، لأن ذلك سيؤدي إلى عواقب وخيمة لا يستطيع أحد التنبؤ بنتائجها، فالمساس بالمقدسات الإسلامية هو مساس بعقيدة جميع المسلمين في العالم، ويتنافى والشرائع السماوية، وكل القوانين والمواثيق والأعراف الدولية.
أيها المسلمون :
لقد رفض شعبنا الفلسطيني والأمتان العربية والإسلامية قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالاعتراف بالقدس المحتلة عاصمة لدولة الاحتلال الإسرائيلي ونقل السفارة الأمريكية إليها، ونحن نعتبر هذا القرار بأنه قرار جائر وظالم يرفضه الشعب الفلسطيني بكل مكوناته كما ترفضه الأمتان العربية والإسلامية، ونحن نرد على الرئيس الأمريكي ونقول: إن مدينة القدس عاصمة الدولة الفلسطينية مدينة فلسطينية عربية إسلامية، فلا قيمة لفلسطين بدون القدس ولا قيمة للقدس بدون المسجد الأقصى المبارك، فالقدس مدينة إسلامية بقرار رباني لن يلغيه أي قرار يصدر من هنا وهناك ، كما أنها آية من القرآن الكريم باقية إلى قيام الساعة.
إن الشعب الفلسطيني ومعه أبناء الأمتين العربية والإسلامية لن يسمحوا بتمرير هذا القرار الجائر وسيتصدون له بكافة الطرق، لأن قضية القدس تجمع الفلسطينيين كما تجمع أبناء الأمتين العربية والإسلامية، وما زلنا نذكر وقفة أهلنا المقدسيين في منتصف شهر يوليو الماضي عندما قررت سلطات الاحتلال الإسرائيلي تركيب الكاميرات الخفية والبوابات الإلكترونية عند أبواب المسجد الأقصى المبارك، حيث وقفوا سداً منيعاً أمام تنفيذ هذا المخطط الإجرامي، فقد تصدوا رجالاً ونساءً وشيباً وشباناً مسلمين ومسيحيين لهذا القرار الظالم، وخلفهم كل الفلسطينيين والعرب والمسلمين، حيث أدوا صلواتهم في شوارع وأزقة المدينة المقدسة، وأجبروا سلطات الاحتلال على رفع البوابات وإزالة الكاميرات، ودخل المصلون باحات المسجد الأقصى المبارك مهللين مكبرين، وما هبة النفق عام 1996م ، وانتفاضة الأقصى عام 2000م عنا ببعيد، حيث قدم شعبنا الفلسطيني مئات الشهداء وآلاف الجرحى والمصابين، فعلى هذه الأرض المباركة ستتحطم جميع المؤامرات .
أيها المسلمون :
رغم هذا القرار الأمريكي الظالم ستبقى مدينة القدس مدينة فلسطينية عربية إسلامية بصمود أهلها المرابطين والمدافعين عنها نيابة عن الأمتين العربية والإسلامية .
إن مدينة القدس بحاجة إلي خطوات فعلية تُسهم في المحافظة على عروبتها وإسلاميتها ودعم صمود أهلها، فمدينة القدس احتلت عبر التاريخ مرات عديدة ولكنها لفظت المحتلين وستلفظ هذا المحتل إن شاء الله، هذه المدينة المقدسة في أَمسِّ الحاجة إلى أيِّ جُهْدٍ يُميِطُ اللّثام عما يجري من أعمال بشعة بحقها وتراثها وأهلها، والتي تشكل إهانة للإنسانية ووصمة عار في جبينها.
إن مسئولية الدفاع عن مدينة القدس والمقدسات ليست مسئولية الشعب الفلسطيني وحده وإن كان هو رأس الحربة في الذود عنها وحمايتها، إنما هي مسئولية العرب والمسلمين جميعاً في العمل على تحرير المدينة المقدسة والمحافظة عليها ، ومساندة المقدسيين المرابطين والوقوف بجانبهم ودعم صمودهم للمحافظة على أرضهم ومقدساتهم، خصوصاً في هذه الأيام التي تتعرض فيها مدينة القدس والمسجد الأقصى المبارك لمؤامرات خبيثة.
فمدينة القدس لا يمكن أن تُنسى أو تُترك لغير أهلها، مهما خَطَّط المحتلون الذين يسعون لطمس طابعها العربي الإسلامي ومحو معالمها التاريخية والحضارية، وتحويلها إلى مدينة يهودية.
لذلك فإن الواجب على شعبنا الفلسطيني الذي توحده قضية القدس والمقدسات أن يجمع شمله ويُوَحّد كلمته، من أجل المحافظة على عروبة وإسلامية هذه البلاد ، وكي نتصدى معاً وسوياً لهذه الهجمة الاستيطانية التي طالت البشر والمقدسات والشجر والحجر.
فسرّ قوتنا في وحدتنا وإن ضعفنا في فرقتنا وتخاذلنا ، فهدفنا واحد وهو إنهاء الاحتلال الإسرائيلي ، وإقامة دولتنا الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف ، والتمسك بحق العودة للاجئين الفلسطينيين ، وخروج جميع الأسرى والمعتقلين من سجون الاحتلال.
لذلك يجب علينا أن نتعالى على الجراح وأن نفتح صفحة جديدة من الأخوة، فالقدس تناديكم اليوم؛ للتأكيد على أنها عاصمة دولة فلسطين، ولتطبيق العدالة في أعدل قضايا الدنيا، قضية القدس وفلسطين وشعب فلسطين، وقيام دولة فلسطين وعاصمتها القدس الشريف.
إن القدس تقول لكم: سوف يتراجع الظلم، وينهزم الأعداء، فالليل مهما طال فلا بُدَّ من بزوغ الفجر، وإن الفجر آتٍ بإذن الله رغم أعداء شعبنا وأمتنا، ويسألونك متى هو؟ قل عسى أن يكون قريبا.
تقبل الله منا ومنكم الصيام والقيام
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين
الدعاء.....