2023-09-22

الهجرة النبوية الشريفة.... وحب الفلسطينيين لوطنهم
2019-09-06

الخطبة الأولى :

أيها المسلمون :

 في مُسْتَهَلِّ كلّ عام هجري يُشرق على الوجود هلال المحرم، فَيُجَدّد في دنيا الإسلام ذكرى من أعزِّ الذكريات، إنها ذكرى هجرة النبي محمد- صلى الله عليه وسلم - من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة .

وَتُعَدّ الهجرة النبوية حدثًا فاصلاً في تاريخ الأمة الإسلامية، فقد كانت فتحًا مبينًا ونصرًا مُؤَزَّرًا ومنعطفًا عظيمًا في حياة المسلمين ترسَّخت من خلالها دعائم الوحدة، وتنسَّم المسلمون عَبَقَ الحرية بَعْدَمَا أصمَّ المشركون آذانهم واستغشوا ثيابهم وأَصَرّوا واستكبروا استكبارا، فلم يكن بُدٌّ من العمل على حياة كريمة تليق بالإنسان وكرامته ورسالته في هذه الحياة.

لقد كانت الهجرة فاتحة خير بالنسبة للمسلمين والدعوة الإسلامية على السواء، فقد تهيأت من خلالها سبل النصر للمسلمين، وتألفت من ضيائها أنوار الهداية لترسل بأشعتها في كل اتجاه من أرجاء المعمورة، ومن ثَمَّ فقد فطن الفاروق عمر – رضي الله عنه – إلى أهمية هذا الحدث فجعل منه بداية التقويم الهجرى، مع أن الإسلام قد بدأ في إرسال أشعته الهادية قبل ذلك بسنوات، بَيْدَ أن هذا الحدث بالذات كان بمثابة الانطلاقة الحقيقية لدولة الإسلام ووحدة المسلمين .

أيها المسلمون :

لقد هاجر رسولنا – صلى الله عليه وسلم – من مكة المكرمة إلى يثرب، وعلّم الدنيا كلها حب الأوطان والأماكن المباركة والوفاء لمسقط الرأس، عندما ألقى نظرة الوداع على مكة المكرمة وهو مهاجرٌ منها، وقال كلمته الخالدة:‏(وَاللَّهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ، وَلَوْلا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ)، ومن المعلوم أن العرب كانوا يتمدحون بالاعتزاز بالوطن ويرونه من مفاخرهم الكبيرة، كما قال ابن الرومي:

ولي وطنٌ آليتُ ألا أبيعَهُ         وألاّ أرى غيري له الدهرَ مالكا

عهدْتُ به شرخَ الشبابِ ونعمةً        كنعمةِ قومٍ أصبحوا في ظِلالكا

 فحبّ الوطن من الإيمان والعيش فيه مع قسوة الحياة يُعَدُّ نعمة عظيمة لا يعرفها إلا من فقدها، ومن الأمور المبشرة بالخير  تعلق شبابنا الفلسطيني بوطنهم فلسطين والقدس والمسجد الأقصى المبارك، وما نراه من تواجد يومي لطلاب وطالبات مصاطب العلم والمرابطين والمعتكفين للدفاع عن المسجد الأقصى، وحرص الكثير من شبابنا على عقد قرانهم في المسجد الأقصى المبارك، إلا دليل واضح على ذلك .

وهل ينسى الإنسان وطنه ؟ الأرض التي وُلد على ثراها، وأكل من خيرها، وشرب من مائها، واستظل بظلها ، وترعرع في أزقتها، فالوطن غالٍ وعزيز، فكيف إذا كان الوطن هو فلسطين الحبيبة أرض الإسراء والمعراج.

أيها المسلمون :

من المعلوم أن الإسلام حرَّم اليأس وأوجد البديل وهو الأمل، وحرَّم التشاؤم وأوجد البديل وهو التفاؤل، وهذا درس الأمل والتفاؤل نتعلمه من ذكرى الهجرة النبوية الشريفة.

فهذا سراقة بن مالك يلحق بالنبي – صلى الله عليه وسلم- ليظفر بجائزة قريش مائة من الإبل  لمن يأتي برسول الله –صلى الله عليه وسلم-حياً أو ميتاً، وعندما لحق سراقة بالنبي –عليه الصلاة والسلام-، دعا عليه رسول الله–صلى الله عليه وسلم- فساخت أقدام فرسه في رمال الصحراء، ثم قال له الرسول-صلى الله عليه وسلم-: "كيف بك يا سراقة إذا لبستَ سوارى كسرى؟!"، وفعلاً عاد سراقة، ما الذي دفع الرسول –صلى الله عليه وسلم- إلى هذا القول؟! وفارس والروم كانتا أعظم قوتين في الأرض وقتئذ مثل أمريكا وروسيا اليوم، الذي دفعه إلى ذلك هو إيمانه بربه وثقته بنصره ، وفعلاً تحقق ذلك، ونَفَّذ عمر بن الخطاب – رضي الله عنه- عهد الرسول –صلى الله عليه وسلم –، وأعطى سراقة سواري كسرى عندما فتح المسلمون بلاد فارس.

فعلينا أن نكون دائماً على يقين بنصر الله، متفائلين مهما اشتدت الخطوب واحلولكت الظلمات، فالليل مهما طال فلا بُدَّ من بزوغ الفجر، وإن الفجر آتٍ بإذن الله،  وسيندحر الاحتلال الغاشم  عن بلادنا المباركة وينقشع هذا الظلام، وستشرق شمس الحرية والاستقلال وستقام دولتنا الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف إن شاء الله.

أيها المسلمون :

      هذا درس آخر نتعلمه من ذكرى الهجرة المباركة، وهو هجر المعاصي ومحاربة النفس والشيطان، فهذه الهجرة دائمة في مختلف الأزمنة والأمكنة، فقد جاء في الحديث: "وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ ".

      فعلى المسلم أن يهجر المعاصي بجميع أشكالها من ربا، وغيبة، ونميمة، وأكل لأموال الناس بالباطل، وأن يفتح صفحة جديدة مع ربه، وكلّ ما أصاب المسلمين من ذل وضعف ليس تخلياً من الله عنهم، بل نتيجة حتمية لارتكاب المعاصي "من عرفني وعصاني سلطتُ عليه من لا يعرفني".

أيها المسلمون :

إننا نعيش في ظلال شهر الله المحرم، واليوم الجمعة هو السابع من هذا الشهر الفضيل فقد جاء في الحديث أن رسول الله-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قا ل: ( أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ) ، وفي هذا الشهر الكريم يوجد يومٌ عظيمٌ من أيام الله وهو أعظم أيام هذا الشهر ، ألا وهو يوم عاشوراء ، فعن أبي قتادة الأنصاري – رضي الله عنه- أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- قال : (...وصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ)، ومما يدل على فضل صيامه ما رُوي عَن ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ : (مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتَحَرَّى صِيَامَ يَوْمٍ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ إِلا هَذَا الْيَوْمَ - يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَهَذَا الشَّهْرَ يَعْنِي: شَهْرَ رَمَضَانَ ) .

ومن الجدير بالذكر أن الإمام ابن القيم – رحمه الله – بيّن مراتب صومه  في  كتابه (زاد المعاد في هدي خير العباد)، حيث قال: (فمراتب صومه ثلاثة، أكملها: أن يُصام قبله يوم وبعده يوم، ويلي ذلك: أن يُصَام التاسع والعاشر، وعليه أكثر الأحاديث، ويلي ذلك إفراد العاشر وحده بالصوم)، فهناك من يصوم التاسع والعاشر لما ورد عن ابن عبّاس -رضي الله عنهما- قال: (حِينَ صَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ يَوْمٌ يُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ- صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ)، قَالَ:( فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِلُ حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ  عَلَيْهِ وَسَلَّم- ( .

فعلينا أيها المسلمون أن نتبع سنة نبينا – صلى الله عليه وسلم – بصيام يوم عاشوراء وغيره من الأيام المباركة ، ففضلها كبير وأجرها عظيم.

ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة ، فيا فوز المستغفرين استغفروا الله ....

الخطبة الثانية :

أيها المسلمون :

لقد كان أول عمل قام به النبي – صلى الله عليه وسلم- لدى وصوله المدينة المنورة  أنه أمر ببناء المسجد، فكان هذا المسجد بيتاً للعبادة والصلاة، ومدرسة للتوجيه والإرشاد، ومنطلقاً للهداية والإصلاح ، ومكاناً لعقد المعاهدات، واستقبال الوفود، ومجلساً للشورى،ومحكمة للقضاء،ومنه انطلقت جحافل الإيمان، تنشر الحق والعدل والفضيلة في الآفاق، وتقيم أسس الحضارة والمدنية في كل مكان.

ومن المعلوم أن المساجد هي خير بقاع الأرض على الإطلاق وأحب البقاع إلى الله، لقوله– صلى الله عليه وسلم - : (أَحَبُّ الْبلادِ إِلَى اللَّهِ تَعَالى مَسَاجِدُهَا ).

وقد أمر الله- سبحانه وتعالى- ببنائها وعمارتها وتطهيرها ، وجعل الخير الجزيل لمن يبنيها، ووعده على ذلك بجنة عرضها السموات والأرض ، لقوله – صلى الله عليه وسلم - : (مَنْ بَنَى مَسْجِدًا لِلَّهِ كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ ، أوْ أَصْغَرَ ، بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ )، ومن المعلوم أن رسالة المسجد في الإسلام عبر التاريخ هي رسالة الوحدة والمحبة وجمع شمل الأمة، فقد ذكر الشيخ  / محمد الغزالي- رحمه الله- في كتابه خُلُق المسلم، أن المصلين اختلفوا في صلاة التراويح، هل هي ثماني ركعات أم عشرون ركعة ؟ فقال بعضهم: بأنها ثماني ركعات ، وقال آخرون: بأنها عشرون ركعة ، وتعصب كل فريق لرأيه ، وكادت أن تحدث فتنة ، ثم اتفق الجميع على أن يستفتوا عالماً في هذه القضية، فسألوه عن رأيه في الأمر ، فنظر الشيخ بذكائه فعرف ما في نفوسهم ، وهو أن كل طرف يريد كلمة منه ، فقال الشيخ مستعيناً بفقهه : الرأي أن يُغلق المسجد بعد صلاة العشاء (الفريضة ) فلا تُصلى فيه تراويح البته، قالوا : ولماذا أيها الشيخ؟!، قال: لأن صلاة التراويح نافلة (سنة) ووحدة المسلمين فريضة،فلا بارك الله في سنة هدمت فريضة.

فما أحوج أبناء شعبنا الفلسطيني اليوم إلى المحبة والتعاضد والتكاتف والتكافل وجمع الشمل وتوحيد الكلمة ورص الصفوف، خصوصاً في ظل الظروف الدقيقة التي تمرّ بها بلادنا المباركة،  ليكونوا كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.

أيها المسلمون :

من الأمور المبشرة بالخير، والدالة على تعلق شعبنا الفلسطيني ببلادنا المباركة فلسطين، وقلبها النابض مدينة القدس، ولؤلؤتها المسجد الأقصى المبارك، ما رأيناه من موقف مُشَرِّف لأهلنا في المدينة المقدسة الذين ضربوا أروع الأمثلة في الصبر والثبات أمام المحتل المتغطرس، فقد أثبتوا أنهم مع أهلنا من فلسطينيي الداخل على قدر المسؤولية، وأنهم يستحقون هذا الشرف الذي تحدث عنه النبي -صلي الله عليه وسلم- في العديد من الأحاديث الشريفة حول الطائفة المنصورة في القدس والأقصى.

  إننا نُشيد بثبات المقدسيين ووحدتهم ورباطهم وتمسكهم الدائم بالدفاع عن أقصاهم ومقدساتهم وتصديهم لمخططات الاحتلال الإسرائيلي، فشعبنا الفلسطيني– والحمد لله - لا يزال يُثبت في كل يوم بسالةً وقوة وتضحية في دفاع منقطع النظير عن أرض فلسطين المباركة، وما هَبّة صلاة عيد الأضحى المبارك صباح أول أيام العيد ومنع الاقتحام الجماعي للمستوطنين إلا دليلٌ على ذلك، فهذه الهبّة المُشرّفة  تُضاف إلى سجل الصفحات المشرقة لنضالات شعبنا عبر التاريخ، وما إجبارهم لسلطات الاحتلال الإسرائيلي على إزالة البوابات الإلكترونية والكاميرات الخفية وإعادة فتح أبواب المسجد الأقصى عام 2017م عنا ببعيد، كما لا ننسى هبة المقدسيين في شهر فبراير الماضي بفتح مُصَلَّى باب الرحمة، فقد علّموا المحتل درساً بأن إجراءاته الظالمة لن تمرّ على شعبنا الفلسطيني ولن يوافق عليها إطلاقا، حيث إن المسجد الأقصى المبارك  الذي تبلغ مساحته (144) دونمًا بساحاته وأروقته وكلّ جزء فيه سواء كان فوق الأرض أم تحتها هو حق خالص للمسلمين وحدهم، وليس لغير المسلمين حق فيه.

أيها المسلمون :

إن مدينة القدس  بحاجة إلي خُطوات فعلية تُسهم في المحافظة على عروبتها وإسلاميتها ودعم صمود أهلها، فمدينة القدس احتلت عبر التاريخ مرات عديدة ولكنها لفظت المحتلين وستلفظ هذا المحتل إن شاء الله، هذه المدينة المقدسة في أَمَسِّ الحاجة إلى أيِّ جُهْدٍ يُميِطُ اللّثام عما يجري من أعمال بشعة بحقها وتراثها وأهلها، والتي تُشكل إهانة للإنسانية ووصمة عارٍ في جبينها. 

إن مسئولية الدفاع عن المسجد الأقصى المبارك ليست مسئولية الشعب الفلسطيني وحده وإن كان هو رأس الحربة، فهو الشعب الذي منحه الله عزَّ وجل شرف المرابطة في هذه البلاد كما جاء في الحديث: (لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الدِّينِ ظَاهِرِينَ، لِعَدُوِّهِمْ قَاهِرِينَ، لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ، إِلاَّ مَا أَصَابَهُمْ مِنْ لأَوَاءَ، حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلِكَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَأَيْنَ هُمْ؟ قَالَ: بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَأَكْنَافِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ)،  بل إنها مسئولية العرب والمسلمين جميعاً في مساندة هذا الشعب، والوقوف بجانبه ودعمه  للمحافظة على أرضه ومقدساته.

الدعاء...