الخطبة الأولى :
أيها المسلمون :
يعيش المسلمون في هذه الأيام في ظلال أيامٍ مباركة من شهر ربيع الأول، يتفيَّأون ظلالها ويتعلمون من دروسها وَعِظَاتها، فما أفضل هذه الأيام! إنها ذكرى ميلاد الرحمة المهداة والنعمة المسداة والسراج المنير سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم –، الذي أرسله ربه رحمة للعالمين كما جاء في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}، ومن المعلوم أن رسولنا – صلى الله عليه وسلم – قدْ دعا الناس للعبادة فكان أعبدَ الناس، ودعاهم إلى مكارم الأخلاق فكان – عليه الصلاة والسلام- أسمى الناس، كما وصفه ربه في قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}، فما أكثر ما قاله – صلى الله عليه وسلم- من توجيهات في حُسْنِ الخُلق والصدق والأمانة والإحسان والتمسك بالفضائل وتجنب الرذائل ،كل هذه المعاني السامية لو تَمَسَّكَ المسلمون بها لكانوا كما أرادهم الله سبحانه وتعالى خير أمة أُخرجت للناس ، ورحم الله القائل:
مَنْ أرادَ النجاةَ غـدًا فَلْيُطِعِ النبيَّ مُحَمَّدا
إنْ شِئْتُموا أن تَسْلموا يومَ الحسابِ وَتُرْحَموا
وَتُكَرَّموا وتُنَعَّموا فَلِهَدْيِ أحمدَ فَالْزَمُوا
وإذا سَمِعْتُم ذِكْرَهُ صَلّوا عليهِ وسَلِّموا
اللهم صلِّ وسلّم وبارك على سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وأصحابه أجمعين .
أيها المسلمون :
لقد كان ميلاده – عليه الصلاة والسلام – ميلاد أمة، حيث جاء – عليه الصلاة والسلام – على أمة ممزقة مبعثرة تعبد الحجر والشجر، فجعلهم قادة للبشر، وكانت ترعى الغنم فصارت قادة للأمم، كان زعيمهم وقتئذ يأتي إلى سيده من الأكاسرة أو القياصرة، يقف بين يديه ذليلاً ليقول له: عبدك النعمان مَاثِلٌ بين يديك، فأخذ بأيديهم من الذّلة إلى العزّة، ومن الضعف إلى القوة، ومن التفرق والشتات إلى الوحدة والقوة، فأصبحت هذه الأمة ذات شأن ومكانة في العالم أجمع، حيث اتصفت هذه الأمة بميزتين: الأولى: الخيرية: كما ورد في قوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ باللّهِ}، والثانية: الوسطية: كما في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}؛ ولذلك فإن لرسولنا- صلى الله عليه وسلم- علينا حقوقاً كثيرة، منها:وجوب الإيمان به، واتباعه، ومحبته، والانتصار له، ونشر دعوته، وتوقيره حياً وميتاً، والصلاة عليه-صلى الله عليه وسلم- كلما ذُكِر، فقد أمر الله المؤمنين بالصلاة والسلام عليه كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الله وَمَلائكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}.
أيها المسلمون :
إن محبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم – واجبة على المؤمنين ، بل هي دليل الإيمان، ومن الآيات الدالة على وجوب محبة الرسول – صلى الله عليه وسلم – قوله سبحانه وتعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رحيمٌ}.
ومن المعلوم أنَّ من أحبَّ شيئاً أكثر من ذكره ، والمرء مع من أحبّ يوم القيامة ، كما جاء في الحديث : ( أنَّ رجلا سأَل النبيَّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- : متى الساعةُ يا رسولَ اللهِ ؟ قال : ما أعْدَدْتَ لها ؟ ، قال : ما أعْدَدْتُ لها من كثيرِ صلاةٍ ولا صومٍ ولا صدَقَةٍ، ولكني أُحِبُّ اللهَ ورسولَه، قال: أنتَ مَعَ مَنْ أحبَبتَ) .
فديننا الإسلامي يُوجب علينا حُبَّ رسولنا – صلى الله عليه وسلم - :
أليس هو النبي الذي رفع الله ذكره، كما في قوله سبحانه وتعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ}.
أليس هو الذي قرن الله طاعته بطاعته، فقال سبحانه وتعالى: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ}.
أليس هو الذي قرن الله محبته بالسير على هديه، فقال سبحانه وتعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ}.
أليس هو الذي سيندم العصاة على مخالفته، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى : {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا}.
أليس هو الذي أمر الله عزَّ وجلَّ المؤمنين بالصلاة والسلام عليه ، فقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}.
إن محبة رسولنا – صلى الله عليه وسلم – منزلة رفيعة ومقام جليل، لا يَحْظى بها إلا أهل القلوب المستنيرة والهِمَمِ العالية، كما جاء في الحديث أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم– قال: (كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ أَبَى، قَالُوا : يا رسولَ اللهِ وَمَنْ يَأْبَى ؟ قَالَ: مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى ".
أيها المسلمون :
من المعلوم أن رسولنا – صلى الله عليه وسلم- قد بدأ دعوته بالحكمة والموعظة الحسنة ، فها هو – صلى الله عليه وسلم – يذهب إلى الطائف لعلَّه يجدُ الأنيس والنصير ، فسَبُّوه وشتموه ورجموه، فجاءه المَلَكُ يَعرِض عليه أن يُطبق عليهم الأخشبين ، فقال -عليه الصلاة و السلام- " اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون ، لعلَّ الله يُخرج من أصلابهم مَنْ يُوَحِّدُ الله " ، لم يشتمهم ولم يلعنهم ، بل دعا الله أن يهديهم، وفعلا استجاب الله دعاءه ، فخرج من صُلْب أبي جهل – عدو الله اللدود – الصحابي الجليل عكرمة، وخرج من صُلْب أمية بن خلف – الكافر- الصحابي الجليل صفوان ، وخرج من صُلْب الوليد بن المغيرة – الكافر – سيف الله خالد.
فعلى الداعية أنْ يُعامل الناس بِلُطْف، وأن يرغبهم في دين الله ، بالكلمة الطيبة والقدوة الصالحة والنية الخالصة؛ حتى يوفقه الله ويشرح صدور الناس لقبول دعوته بفضله سبحانه وتعالى، فليس المؤمن بطَعَّان ولا لَعَّان ولا فاحش ولا بذيء.
أيها المسلمون :
لقد تعهد الله سبحانه وتعالى رسوله الكريم – صلى الله عليه وسلم – بالرعاية والتربية؛ ليكون الأسوة الحسنة للبشرية جمعاء في كافة المجالات، وما زالت شخصيته وسيرته – عليه الصلاة والسلام- تحظى بالدراسات المستفيضة في كافة الجوانب من المسلمين وغيرهم، وما قول المفكر البريطاني "برنارد شو " عنا ببعيد، عندما قال : (إن مشاكل العالم اليوم بحاجة إلى رجلٍ مثل محمد يَحُلّها وهو يشرب فنجاناً من القهوة)، ولذلك فإننا نجزم بأن اتِّباَعَه – صلى الله عليه وسلم- سبيل نجاة الأمة ورقيّها ، كما قال – عليه الصلاة والسلام – : (تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا َمَسَكْتُمْ بِهِمَا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ).
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة ، فيا فوز المستغفرين استغفروا الله ....
الخطبة الثانية :
أيها المسلمون :
ونحن نتفيأ ظلال هذه الذكرى الطيبة فإن الواجب على المسلمين جميعاً أن يكونوا أمة واحدة قوية متماسكة؛ حتى لا يكونوا لقمة سائغة للآخرين ، فالواجب علينا أن نستجيب لدعوته– صلى الله عليه وسلم - وألاّ نتفرق وألاّ نتشرذم، وألاّ يحمل أحدنا حقداً على أخيه، وأن نتحابب فيما بيننا، وأن نكون أمة واحدة ، فَسِرّ قوتنا في وحدتنا وإن ضعفنا في فرقتنا وتخاذلنا، فالوحدة أساس كلّ خير في دنيا الناس وآخرتهم، وإن الفرقة أخطر الآفات التي تقضى على سعادة الناس وترديهم في مهاوى التهلكة، فقد أكد ديننا الإسلامي على أن الأمة الإسلامية أمة واحدة، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} ، وقوله سبحانه وتعالى أيضاً:{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}،وقد ضرب رسولنا –صلى الله عليه وسلم– للمؤمنين مثلاً يُعرفون به ويحرصون عليه، في قوله –صلى الله عليه وسلم-:(مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى )، وبقوله – عليه الصلاة والسلام- أيضاً : ( الْمُؤْمِن لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا )، أولئك هم المؤمنون حقاً ، الذين يتعاونون فيما بينهم على البرِّ والتقوى. فالإسلام هو الضمان الوحيد لوحدة هذه الأمة، وهو الضمان الذي يُبقى عليها، فلا تتفرق ولا تتشتت ولا تتشرذم، ولا يُعادي بعضها بعضاً ولا يقتل بعضها بعضاً.
إن شعبنا الفلسطيني وأمتنا العربية والإسلامية أحوج ما يكونون إلى الوحدة والمحبة ورصّ الصفوف وجمع الشمل وتوحيد الكلمة، خصوصاً في هذه الظروف الصعبة التي تمرّ بها المدينة المقدسة وقلبها المسجد الأقصى المبارك بصفة خاصة ، وقضيتنا الفلسطينية والمنطقة العربية والإسلامية بصفة عامة.
أيها المسلمون :
إن الأوضاع الحالية التي يمرّ بها المسجد الأقصى المبارك وصلت إلى مراحل خطيرة، من خلال تكثيف اقتحامات المستوطنين للمسجد الأقصى؛ تمهيداً لتنفيذ مخططاتهم الإجرامية بالتقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى المبارك، حيث اقتحم المئات من المستوطنين خلال الأيام الماضية المسجد الأقصى المبارك في مجموعات متتالية، ونظموا جولات استفزازية في باحاته، كما تَلَقَّى المستوطنون خلال هذه الاقتحامات شروحات عن الهيكل المزعوم ، وأدوا طقوساً تلمودية بحماية قوات الاحتلال الإسرائيلي، ومن الجدير بالذكر أن مدينة القدس قد شهدت خلال ما يُسَمَّى بالأعياد اليهودية تضييقات وتشديدات إسرائيلية، يتخللها عادة إغلاقات لشوارع المدينة وبلداتها ومداخلها ونصبٍ للحواجز العسكرية ، بالإضافة لعمليات تفتيش وتضييق على المقدسيين وحركة تنقلهم، بهدف تأمين الحماية الكاملة للمستوطنين لأداء شعائرهم التلمودية.
إننا نشيد بصمود أهالي المدينة المقدسة وتمسكهم الدائم بالدفاع عن أقصاهم ومقدساتهم، وتصديهم المستمر لمخططات الاحتلال الإسرائيلي الإجرامية، وَنُشَدّد في الوقت ذاته على أهمية وجود دعم وإسناد عربي وإسلامي للمقدسيين والمرابطين على كافة المستويات؛ كي يبقوا مدافعين عن الأقصى والمقدسات، كما نطالب أبناء الأمتين العربية والإسلامية ألاّ يتركوا المسجد الأقصى وحيداً، فالواجب عليهم أن يعملوا جاهدين على المحافظة على المسجد الأقصى المبارك والمدينة المقدسة، وفضح الجرائم والاعتداءات الإسرائيلية على شعبنا الفلسطيني والأقصى والمقدسات.
أيها المسلمون :
وفي الختام نؤكد على أن ميلاد رسولنا محمد – صلى الله عليه وسلم – كان نقطة تحول هائلة في تاريخ البشرية، وفاتحة خيرٍ على الدنيا بأسرها، فحين صافح سَنَاهُ الوجود أشرقت الأرض بنور ربها، وتهاوت قلاع الشرك والوثنية، وارتفعت راية التوحيد وانتصر الحق وزهق الباطل، ولم يعرف التاريخ شخصية أبعد أثرًا في النفوس وأعمق تأثيرًا في القلوب من محمد – صلى الله عليه وسلم –، الذي نال منزلة دونها كلّ منزلة، واستأثر بحبٍ يتضاءل أمامه كلّ حبٍ سوى حبّ الله –سبحانه وتعالى-، ونحن في ذكرى مولدك يا سيدي يا رسول الله:نَشْهد أنك قد بَلَّغْتَ الرسالة، وأديتَ الأمانة، ونصحتَ الأمة، فجزاك الله عنا وعن المسلمين خير الجزاء.
اللهم أحينا على سنته ، وأمتنا على مِلّته ، واحشرنا في زمرته ، واسقنا يا رب من حوضه الشريف شربة ماء لا نظمأ بعدها أبداً، آمين ... آمين... يا رب العالمين.
الدعاء...