2023-09-22

وبشر الصابرين
2021-01-15

الخطبة الأولى :

أيها المسلمون :

يقول الله تعالى في كتابه الكريم : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .

إنّ الصبر  قيمة عظيمة وصفة كريمة من صفات الرسل الكرام – عليهم الصلاة والسلام-،  كما أنه عنوان الإيمان الصادق وبرهانه، ومن المعلوم أن الإيمان نصفه شكرٌ على النّعماء، ونصفه صبرٌ على البأساء والضراء، فالصبر ضياء للإنسان في دنياه وفي قبره وفي آخرته، وبالصبر يفتح الله على عباده أبواب السعادة والسرور، والصبر من علامات الإيمان بل هو نصف الإيمان .

ومن المعلوم أنّ فضيلة الصبر تدل على أنّ صاحبها قد تَحلَّى بضبط النفس وثبات القلب ورباطة الجأش، وصدق الإيمان وكمال الرجولة ، لأن أثقال الحياة وتكاليفها وأحداثها لا يُطيقها الضِّعاف المهازيل ، وإنما يُطيقها أصحاب النفوس الكبيرة ،  لذلك فإن جزاء الصبر عطاء من الله بغير حساب في الآخرة ، وهو في الدنيا ضياء في الأحداث ، وثبات يُكَفّر الله به الذنوب ويفتح باب الفرج القريب .

أليس الصبر سلاح الطالب حتى ينجح ، وعون التاجر حتى يربح، وعدّة المزارع والصانع حتى تنمو ثروتهما ، ومُلهم الباحث والعالم ليبلغ غايته ؟ نعم : إنه الزاد لكل أبناء الأمة ، حتى يكونوا اللبنات القوية التي تشدّ من أَزْرِ أمتهم  وتُحقق لها الأمجاد  وتُقيم صروح العزة والكمال. 

أيها المسلمون :

نحن في هذه الأيام بحاجة إلى وقفة تأمُّل ننظر فيها إلى أحوالنا، كي نلتقط العبر والعظات، في وقت نحن أحوج ما نكون فيه لأخذ العبر والعظات.

لقد اقتضت إرادته سبحانه وتعالى أن يختبر المؤمنين، ليميز الله الخبيث من الطيّب وليظهر الحقَّ من الضلال، تلك سنَّة الله ولن تجد لسنّة الله تبديلا، فبعض النّاس -وللأسف- يتصورون أن الابتلاء الإلهي هو غضب من الله، وهذا تصوّر خاطئ، لما ورد في الحديث: (أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاءً؟ قَالَ: الأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، يُبْتَلَى الْعَبْدُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ، وَمَا عَلَيْهِ مِنْ خَطِيئَةٍ "، كما جاء في حديث آخر، أَنَّ النبي – صلّى الله عليه وسلّم – قال: ) مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ، وَلا وَصَبٍ، وَلا هَمٍّ ، وَلا حُزْنٍ ، ولا أَذًى، وَلا غَمٍّ - حَتَّى الشَّوْكَة يُشَاكُهَا- إِلا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ) .

ومن ثواب الصبر : أنّ العاقبة للصابر مهما طال الزمن ، ومهما تكالبت السّنون ومَرَّت ، وازدادت المِحَن والابتلاءات والمصائب واشتَدَّتْ ، فلا بُدَّ للفرج أن يأتي يوماً ما، كما قال سبحانه وتعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا*إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}.   

أيها المسلمون :

عند دراستنا للسيرة النبوية نلاحظ أنّ الرسول – صلّى الله عليه وسلّم -  عندما بدأ بتبليغ الرسالة وَاجَهَ المشاقَّ والمتاعب والمُقَاطعة وجميع أشكال الأذى والتعذيب، ومع ذلك صَبَرَ وَسَلَّم الأمر لصاحب الأمر، فما هي إلا فترة وجيزة، وإذا بالضيق ينقلب فَرَجاً والعُسْر يُسْرًا، ودخل الناس في دين الله أفواجاً.

ومن خلال دراسة التاريخ الإسلامي من مصادره الموثوقة نلاحظ أنّ الخَطَّ البياني للتاريخ الإسلامي مُتَعَرِّج، ينخفض انخفاضاً شديداً، ويرتفع ارتفاعاً شديداً، ويعلو ويهبط وفق القانون الإلهي:{وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} .

لقد هبط أمرُ المسلمين في قرون مضت حتى اغْتُصِبَ الحجر الأسود، أخذه القرامطة قسراً، وظلَّ عندهم نحو ربع قرن، فما عاد إلا بعد لأي.

وهبط مستوى التاريخ الإسلامي إلى الحضيض، يوم دخل التَّتَار بغداد وقتلوا الخليفة وأذلوا الأمة الإسلامية أشدَّ الذّل، ولكنَّ هذا التاريخ الذي هبط سرعان ما علا وارتفع، فما مضى قرن حتى كان المسلمون يدقون أسوار فينا –عاصمة النمسا- ، ثُمَّ قبل ذلك وصلوا مخترقين الأندلس إلى جنوب فرنسا إلى أواسط سويسرا.

هذا التاريخ الذي يتأرجح بين مَدٍّ وَجَزْرٍ حقيقة لا بُدَّ من الاعتراف بها.

فحدوث بعض المصائب أَمْرٌ لا يدعو المسلم إلى اليأس والاعتراض على إرادة الله، بل لا بُدَّ أن يصبر، فالصبر نصف الإيمان.

أيها المسلمون :

إِنَّ القنوط واليأس أَمْرٌ يفتك بالأمم، من هنا حارب الإسلام ذلك وأوجد البديل، حارب اليأس وأوجد الأمل، وحارب التشاؤم  وأوجد التفاؤل.

ومن الجدير بالذكر أنّ رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – كان متفائلاً في جميع أحواله، فيوم اجتمع أعداء الإسلام من كلّ حدب وصوب لمحاربة المسلمين في غزوة الخندق، كان المسلمون في حالة صعبة كما وصفهم القرآن الكريم :{إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَت الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا*هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا}.

ومع ذلك كان الرسول – صلّى الله عليه وسلّم - متفائلاً بنصر الله، وبشَّر الصحابة بأن نصرَ الله آتٍ، فعندما اعترضتهم صخرة صلدة أثناء حفرهم للخندق، ضربها- صلّى الله عليه وسلّم -  بفأسه، وإذ بثلاث شرارات تتطاير، فقال- صلّى الله عليه وسلّم -: (أبشروا: أما الأولى فقد أضاء الله لي منها قصور الحيرة ومدائن كسرى، وأما الثانية فقد أضاء الله لي منها قصور الروم، وأما الثالثة فقد أضاء الله لي منها قصور صنعاء، فإن الإسلام بالغٌ ذلك لا محالة).

وهذا التفاؤل بنصر الله كان مُرافقاً للرسول - صلّى الله عليه وسلّم -  في حِلِّه وترحاله،  ألم يَقُلْ - صلّى الله عليه وسلّم -  لسراقة بن مالك؟ يوم أن لحقه وهو مهاجر من مكة إلى المدينة يُريد أن يظفر بجائزة قريش لمن أتى بالرسول -عليه الصلاة والسلام- حيّاً أو ميتاً:  يا سراقة عُدْ، وإنني أَعِدكَ بسواريْ كسرى.

من المعلوم أنَّ الله عزَّ وجلَّ إذا أراد أمراً فإنَّما يقول له كُنْ فيكون، وإِنَّ القرآن الكريم يقول: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا*إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}،  فالعُسْر جاء مُعَرَّفًا، والمعرفة إذا كُرِّرت كانت عين الأولى، واليُسْرُ جاء مُنَكَّراً، والنَّكِرة إذا كُرِّرت كانت غير الأولى، فلن يغلِبَ عُسْرٌ يُسْرَين.

أيها المسلمون :

لذلك فإن الواجب على المؤمن أن يكون متفائلاً دائماً بفرج الله ،كما ورد عن تميم الداري- رضي الله عنه-،  قال:سمعتُ رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - يقول: (لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الأَمْرُ – يعني أمر الإسلام - مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ ‏ ‏مَدَرٍ ‏ ‏وَلا ‏ ‏وَبَرٍ ‏، ‏إِلا أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ،  بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الإِسْلامَ، وَذُلاًّ يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ).  

وكلمة مَا بَلَغَ الليل والنهار في هذا الحديث الرائع كلمة جامعة من خصائص البلاغة المحمدية، ولا أرى نظيراً لها في الدلالة على السّعة والانتشار‍.

فعلينا أن نكون مُتفائلين، وأن نثق بفرج الله، وأن نُوَكِّل الأمر لصاحب الأمر، فالليل مهما طال فلا بُدَّ من بزوغ الفجر، وإِنَّ الفجر آتٍ بإذن الله،ورحم الله القائل:

وَلَرُبَّ نازلةٍ يَضِيقُ بها الفَتَى       ذَرَعاً، وعندَ اللهِ منها المَخْرجُ

ضَاقتْ فلمَّا اسْتَحْكَمَتْ حَلَقَاتُها        فُرِجَتْ، وكنتُ أَظُنُّها لا تُفْرَجُ

أيها المسلمون :   

قد يكون الابتلاء نعمة، لا كَمَا يظنه كثير من الناس نقمة ، فالله سبحانه وتعالى يُوقِظُ عبده من الغفلة ، فقد قال أحد السلف : رُبَّ مِنْحَةٍ ظاهرها مِحْنة، فالله سبحانه وتعالى يبتلي عباده المؤمنين ليرفع من درجاتهم في الدنيا والآخرة ، وليردهم إليه سبحانه وتعالى ، ورحم الله القائل :

قد يُنْعِمُ اللهُ بِالْبَلْوى وإن عَظُمَتْ    ويبتلى اللهُ بعضَ القومِ بالنِّعمِ

ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة ، فيا فوز المستغفرين استغفروا الله...

الخطبة الثانية :

أيها المسلمون :   

يُطِلُّ علينا العام الميلادي الجديد مع ازدياد وتيرة الهجمة الإسرائيلية الشرسة على مدينة القدس بصفة عامة والمسجد الأقصى المبارك بصفة خاصة ، حيث تتعرض مدينة القدس في هذه الأيام لمؤامرة من أشدّ المؤامرات وأخطرها،  فالبيوت تُهدم في سلوان وشعفاط والشيخ جراح وفي سائر أنحاء المدينة المقدسة، والأرض تُنهب وتُصادر لِتُقَام عليها المستوطنات، والمؤسسات تُغلق على اختلافها كبيت الشرق والغرفة التجارية وغير ذلك،  والهويات تُسحب من أجل تفريغ المدينة من سكانها الأصليين، والشخصيات الدينية والوطنية والاعتبارية تُلاحق، وتُمنع من دخول المسجد الأقصى المبارك بصفة خاصة ومدينة القدس بصفة عامة، وجدار الفصل العنصري يلتهم الأرض، وكلّ معلم عربي وإسلامي يتعرض لخطر الإبادة والتهويد، وسلطات الاحتلال تشرع في بناء عشرات الآلاف من الوحدات الاستيطانية لإحداث تغيير ديموغرافي في المدينة المقدسة من أجل إضفاء الطابع اليهودي عليها.

أيها المسلمون :

  ومن الأمور المُبَشّرة بالخير، والدالة على تَعَلُّقِ شعبنا الفلسطيني بوطنه فلسطين والقدس والأقصى، ما نراه يومياً من مواقف مُشَرِّفَة لأهلنا في المدينة المقدسة الذين ضربوا أروع الأمثلة في الصبر والثبات أمام المحتل المتغطرس، فقد أثبتوا أنهم مع أهلنا من فلسطينيي الداخل على قدر المسؤولية، وما إجبارهم لسلطات الاحتلال الإسرائيلي على إزالة البوابات الإلكترونية والكاميرات الخفية، وكذلك هبّة باب الرحمة من خلال قيامهم بإزالة السلاسل الحديدية عن بواباته والصلاة فيه لأول مرة منذ سنوات عديدة عنا ببعيد ؟!،  وبذلك فهم يستحقون هذا الشرف الذي تحدث عنه النبي -صلّى الله عليه وسلّم- في العديد من الأحاديث الشريفة حول الطائفة المنصورة في فلسطين والقدس والأقصى؛ لذلك فإن شعبنا الفلسطيني بكل شرائحه قد جمع شمله وَوَحَّدَ كلمته خلف أهلنا المقدسيين الذين يُشَكِّلُونَ الصخرة التي تتحطّم عليها كل مؤامرات المحتلين، فقضية القدس تجمع الفلسطينيين كما تجمع أبناء الأمتين العربية والإسلامية .

أيها المسلمون :

إِنّ مدينة القدس  بحاجة إلى خُطوات فعلية تُسهم في المحافظة على عروبتها وإسلاميتها ودعم صمود أهلها، فمدينة القدس احْتُلَّتْ عبر التاريخ مرات عديدة، ولكنها لفظت المحتلين وستلفظ هذا المحتل إن شاء الله، هذه المدينة المقدسة في أَمَسِّ الحاجة إلى أيِّ جُهْدٍ يُميِطُ اللّثام عما يجري من أعمال بشعة بحقها وتراثها وأهلها، والتي تُشكل إهانة للإنسانية ووصمة عار في جبينها. 

إَنَّ مسئولية الدفاع عن فلسطين ومدينة القدس والمقدسات ليست مسئولية الشعب الفلسطيني وحده وإن كان هو رأس الحربة في الذّود عنها وحمايتها، إنما  هي مسئولية العرب والمسلمين جميعاً  في العمل على تحرير المدينة المقدسة والمحافظة عليها ، ومساندة هذا الشعب والوقوف بجانبه ودعم صموده للمحافظة على أرضه ومقدساته، خصوصاً في هذه الأيام التي تتعرض فيها مدينة القدس والمسجد الأقصى المبارك لمؤامرات خبيثة.

وبهذه المناسبة فإننا نُؤكد على تمسكنا بأرضنا المباركة فلسطين الحبيبة بصفة عامة ومدينة القدس والمسجد الأقصى المبارك بصفة خاصة ، و كذلك بكلّ مقدساتنا في ربوع فلسطين الغالية، كما نُشدّد على تمسكنا بحقنا في العودة إلى أرض الآباء والأجداد ، هذا الحقّ المقدس لملايين الفلسطينيين في مختلف أرجاء المعمورة ، كما نُؤكد على حقنا في إقامة دولتنا الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف ، وحقنا في تقرير المصير ، وخروج جميع  الأسرى والمعتقلين من سجون الاحتلال ؛  ليتنفسوا نسائم الحرية وليسهموا في بناء هذا الوطن كما أسهموا في الدفاع عنه .

نسأل الله أن يحفظ  بلادنا فلسطين ومقدساتنا من كلِّ سوء.

وصلّى الله على سيِّدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين

الدعاء.....