الحمد لله ربّ العالمين والصَّلاة والسَّلام على رسوله الأمين محمد – صلّى الله عليه وسلّم -، وعلى آله وأصحابه الطَّيبين الطَّاهرين، ومن اقتفى أثرهم وسارَ على دربهم إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
يقول الله تعالى في كتابه الكريم : {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبيرًا* وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}( 1).
إِنَّ للقرآن الكريم منزلة قدسية رفيعة، وفضائل جليلة مهيبة ، منشؤها أنه كلام الحق سبحانه وتعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وهو العاصم من الضّلال لمن تمسَّك به واعتصم بحبله المتين، فهو الكتاب الذي ربط بين جميع المسلمين ، وكان دستورهم في شئون دينهم ودنياهم، والروح الذي أحيا أموات أفئدتهم ، وأزال الغشاوة عن قلوبهم ، والنور الذي أضاء لهم الطريق وسلكوا به سبيل الهُدى والرّشاد، فبركة القرآن الكريم إذا تنزَّلت على القلوب أحيتها، وإذا حلّت في العقول نوّرتها، وإذا نزلت في الصدور شرحتها.
من المعلوم أنّ كل شيء يرتبط بالقرآن الكريم يُصبح عظيماً، فقد نزل سيّدنا جبريل – عليه السلام- بالقرآن الكريم فأصبح سيّدنا جبريل أفضل الملائكة، ونزل القرآن الكريم على سيّدنا محمد – صلّى الله عليه وسلّم- فأصبح سيّدنا محمد – صلّى الله عليه وسلّم- سَيِّدَ الخلق، وجاء القرآن الكريم إلى أُمَّة محمد – صلّى الله عليه وسلّم- فأصبحت أُمَّة محمد – صلّى الله عليه وسلّم- خير أُمَّة، ونزل القرآن الكريم في شهر رمضان فأصبح خير الشهور، ونزل القرآن الكريم في ليلة القدر فأصبحت خير الليالي وخيرًا من ألف شهر.
القرآن الكريم... سبيل الهُدى والرشاد
إِنَّ القرآن الكريم مصدر العِزَّة والكرامة للأمة الإسلامية، ورحم الله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب- رضي الله عنه – عندما قال : (كُنّا أَذِلاّء، فأعزّنا الله بالإسلام، فإذا ابتغينا العِزّة في غيره أذلَّنا الله)، ومن المعلوم أَنَّ القرآن الكريم كتابٌ خَتَمَ الله به الكُتب، وأنزله على نبيّ ختم به الأنبياء، برسالة عامة خالدة ختم بها الرسالات، فالقرآن الكريم كلام ربّ العالمين ، وهو الوحي الإلهي والنور المبين ، والمصدر الأول للتشريع الإسلامي الحكيم ، والمعجزة الناطقة الخالدة إلى يوم الدين ، وهو كلّه فضل وخير ، وبركة وهداية للمسلمين ، مصداقاً لقول ربنا العظيم : {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ* صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ}(2).
كما يسَّر سبحانه وتعالى تلاوته وحفظه : {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ }(3)، ورتَّب على تلاوته الثواب الجزيل والأجر العظيم، فقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ* لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ}(4)، وقال – صلّى الله عليه وسلّم - : ( مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لا أَقُولُ (ألم) حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلامٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ) (5).
كما ذكر سبحانه وتعالى أنَّّ من صفات المؤمنين أنهم : {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ}(6)، ومن حق تلاوته: أن يُقرأ مُرتّلاً مُجَوَّداً كما أُنزل، وعلى الطريقة التي تلقّاها الصحابة – رضي الله عنهم - من رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم -، ثُمّ عنهم أئمة القراءة، حتى وصل إلينا كاملاً سالماً على تلك الكيفية :{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}( 7)، وقد حثَّنا نبيّنا – صلّى الله عليه وسلّم – على تلاوة كتاب الله الكريم ومدارسته؛ لِمَا في ذلك من الأجر العظيم والثواب الكبير.
تكريم رسولنا – صلّى الله عليه وسلّم- لأهل القرآن
لقد كرّم رسولنا– صلّى الله عليه وسلّم- أهلَ القرآن وحفظته وَمُقْرئيه، انطلاقًا من قوله -عليه الصلاة والسلام- : (إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ)(8)، ومن ذلك أنه– صلّى الله عليه وسلم –:
* كان يُقَدِّم القُرَّاء الحُفَّاظ للإمامة بالمُصَلِّين، كما جاء في الحديث:عن أبي مسعود الأنصاريِّ قال: قال رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلّم : (يَؤُمُّ القَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ...) (9)، وقد جاء في حديث آخر عَنْ عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ -رضي الله عنه- أنّ أباه أتى من عند النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-، فقال لقومه : (جِئْتُكُمْ وَاللَّهِ مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -حَقًّا، فَقَالَ: (صَلُّوا صَلاةَ كَذَا فِي حِينِ كَذَا، وَصَلُّوا صَلاةَ كَذَا فِي حِينِ كَذَا، فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاةُ فَلْيُؤَذِّنْ أَحَدُكُمْ، وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْثَرُكُمْ قُرْآنا) (10 ).
* وكان يُقَدِّم القُرَّاء الحُفَّاظ من الشهداء تجاه القبلة: كما جاء في الحديث عن جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما- أنَّ رَسولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ - كانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ في ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ يقولُ: (أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ؟ فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إلى أَحَدِهِما، قَدَّمَهُ في اللَّحْدِ...) (11). *وكان- صلّى الله عليه وسلّم- أيضًا إذا أرسل سَرٍيَّة يسأل مثلاً، مَنْ يحفظ سورة البقرة؟ فيقول رجل: أنا، فيجعله – صلّى الله عليه وسلّم– أميرًا على السّرية، كما جاء في الحديث: عن أبي هريرة – رضي الله عنه – (.... فقالَ رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم-: مَا مَعَكَ يا فُلانُ ؟ قالَ : مَعي كَذا وَكَذا وَسُورَةُ البقرةِ، قالَ: أَمَعَكَ سُورةُ البْقَرَةِ ؟ فقالَ: نعَم، قالَ: فاذْهَبْ فَأَنْتَ أَمِيرُهُم) (12).
القرآن الكريم ... رياض الجنة
إِنَّ مُدارسة القرآن الكريم والاجتماع حول تلاوته في كلّ وقت هَدْي نبوي كريم، وحلقاته المباركة هي اجتماع على تلاوة كلام الله تعالى ومدارسته، ومن فضل الله سبحانه وتعالى أن جعل حلقات القرآن الكريم المُباركة اجتماعاً على تلاوة كلامه سبحانه وتعالى، وهي الموصوفة في الحديث بــ ( رياض الجنَّة )، كما في قوله – صلّى الله عليه وسلّم - : (إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا، قَالوا: وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ : حِلَقُ الذِّكْرِ) (13) ، وهي مَحَلّ تنزّل السكينة وغشيان الرحمة واجتماع الملائكة، وسبب ذكر الله للعبد في الملأ الأعلى، كما ورد في الحديث عن النبي– صلّى الله عليه وسلّم- :(... وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِى بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلاَّ نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ ،وَحَفَّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ) (14).
المراتب الخمسة لصاحب القرآن
* الشفاعة: قال رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم- : (اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لأَصْحَابِهِ) ( 15).
* الرِّفعة: قال – صلّى الله عليه وسلّم-: (يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ : اقْرَأْ وَارْتَقِ وَرَتِّلْ ، كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا ، فَإِنَّ مَنْزِلَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَؤُهَا) (16 ).
* الصُّحبة: قال – صلّى الله عليه وسلّم-: (الْماهِرُ بالقُرْآنِ مع السَّفَرَةِ الكِرامِ البَرَرَةِ) (17 ).
* الخيرية: قال – صلّى الله عليه وسلّم-: (خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ)(18 ).
* الأهلية: قال – صلّى الله عليه وسلّم-: (أَهْلُ الْقُرْآنِ، أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ) (19 ).
إِنَّ هذا القرآن يهدي للتي هي أقومُ
لقد ذكرت كُتُبُ السّيرة والتاريخ بأنّ آيات من القرآن الكريم كانت سببًا في إسلام سيدنا عمر بن الخطاب –رضي الله عنه –وهي ( طه* مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) (20)، كما أنّ سيدنا عمر - رضي الله عنه-سمع قارئاً يقرأ أول آيات من سورة الطّور حتي وصل القارئ إلي قوله تعالي : ( ... إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِن دَافِعٍ )(21)، فخرّ مغشياً عليه أياماً ، ولا أحد يعرف مرض أمير المؤمنين، كما وأنّ القرآن الكريم كان سبباً في كسب موقف النجاشي عندما أرسل أهل مكة وفدًا برئاسة عمرو بن العاص إلي الحبشة لتأليب النجاشي –ملك الحبشة- على المسلمين المُهاجرين من مكة المكرمة إلي الحبشة ، فقرأ جعفر بن أبي طالب – رضي الله عنه- على النجاشي قول الله تعالي ( يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ..) (22) الآيات ، وبذلك استطاع جعفر بن أبي طالب – رضي الله عنه – إفشال مهمة عمرو بن العاص ، وبقي النجاشي يُعَامِلُ المسلمين معاملة حسنة.
هذا هو القرآن الكريم ، دستورنا الخالد ، ومصدر عِزَّتنا وكرامتنا ، علينا أن نقرأه ، ونتدبّر معانيه، ونعمل بأحكامه ، وأن نُعلِّمه لأبنائنا وفلذات أكبادنا ،حتى نكون من السّعداء في الدنيا ، والفائزين في الآخرة إن شاء الله .
اللهُمّ اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا يا ربّ العالمين .
وصلّى الله على سيّدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
الهوامش :
1- سورة الإسراء الآية (9-10)
2- سورة الشورى الآية (52-53)
3-سورة القمر الآية (17)
4-سورة فاطر الآية (29-30 )
5- أخرجه الترمذي
6-سورة البقرة الآية (121)
7-سورة الحجر الآية (9 )
8- أخرجه ابن ماجه
9- أخرجه مسلم
10- أخرجه البخاري
11- أخرجه البخاري
12- أخرجه الترمذي
13- أخرجه الترمذي
14- أخرجه مسلم
15- أخرجه مسلم
16- أخرجه أبو داود
17- أخرجه البخاري
18- أخرجه البخاري
19- أخرجه ابن ماجه
20- سورة طه ، الآية (1-2)
21- سورة الطور، الآية (7-8)
22- سورة مريم ، الآية (28)