الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين محمد – صلّى الله عليه وسلّم -، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، ومن اقتفى أثرهم وسار على دربهم إلى يوم الدين، أما بعد:
لقد كانت الهجرة النبوية الحدث الأهمّ في التاريخ الإسلامي؛ نظراً لأهدافها السامية وأبعادها الرشيدة ونتائجها المُشرقة التي يستحضرها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها مع مرور هذه الذكرى المجيدة في كلّ عام، لذلك أَرَّخُوا بها في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -، ورحم الله القائل:
إذا قامت الدنيا تَعُدُّ مفاخراً فتاريخُنا الوَضَّاءُ من الهجرة ابتدا
ونحن في هذه الأيام نستقبل عامًا جديدًا من أعوام الهجرة التي ارتضيناها تاريخاً لمسيرتنا، وقيداً نُقَيِّدُ به أعمالنا، ومن المناسب في هذه الأيام المُباركة أن نقف عند بعض العِبَرِ والعظات التي نستلهمها من هذه الذكرى الإيمانية العطرة، ومنها :
الثقة بالله سبحانه وتعالى
لقد سبقت الهجرة مواقف عديدة تَحَمَّل فيها رسولنا –صلّى الله عليه وسلّم– والمسلمون عَنَتَ قريش وضراوتها، وكان – عليه الصلاة والسلام- يتطلّع إلى السماء وأخذ يُنَاجي ربَّه راجياً عفوه ورحمته، وقد حَقَّق الله دعوة نبيه – عليه الصلاة والسلام-، فكانت بيعتا العقبة الأولى والثانية التي جعلت للمسلمين داراً وأخوة في يثرب (المدينة)، تجمعهم عقيدة التوحيد والإيمان بالله ورسوله.
وهناك أيضا: ثقة الحبيب –صلّى الله عليه وسلّم- بالله عزّ وجلّ، فعندما بدأ أبو بكر – رضي الله عنه- يقلق ويشعر بالوَجَل كان يقول :( يَا رَسُولَ اللَّهِ لو أنَّ أحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لأَبْصَرَنَا)، عند ذلك كان النبيّ– عليه الصلاة والسلام - يُسَكِّن روعه وَيُبَدِّد قَلَقَهُ، قائلاً له: ( مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا، لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ) (1)، وفي ذلك تنبيه للمسلمين بضرورة الاعتماد على الله سبحانه وتعالى في كلّ أمورهم، فعلينا أن نتوكّل على الله عزَّ وجلَّ دائماً ، وأن نكون على ثقة ويقين بنصره سبحانه وتعالى.
حبّ الوطن والانتماء له
إِنََّ للوطن منزلة عظيمة في القلوب ومكانة كبيرة في النفوس، كيف لا؟ وهو الذي وُلدنا فيه وترعرعنا في جَنَباته، وتنفّسنا نسائمه، يعيش فينا كما نعيش فيه، يحمل آمالنا وآلامنا وذكرياتنا، ولا نقبل عنه بديلاً مهما كانت الأسباب، ومهما مَرَّ به من خُطوب، وانطلاقاً من قول رسولنا – صلّى الله عليه وسلّم - وهو يُخاطب وطنه مكة المكرمة: "وَاللَّهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ، وَلَوْلا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ"(2)، فقد أحبَّ الفلسطينيون وطنهم اقتداء بنبينا محمد – صلّى الله عليه وسلّم–، الذي عَلَّم الدنيا كلّها حبّ الأوطان والأماكن المُباركة والوفاء لمسقط الرأس، حيث يظهر حُبّه – صلّى الله عليه وسلّم – لوطنه مكة، وحرصه على البقاء فيها لا يبرحها، لولا أنه – صلّى الله عليه وسلّم - أُخرج منها مُضطراً مُرْغَماً.
لقد ضرب أبناء شعبنا الفلسطيني أروع الأمثلة في الدفاع عن وطننا الغالي فلسطين، حيث ضَحّوا بالغالي والنفيس في سبيل وطنهم، وتوحَّدوا ووقفوا صفاً واحداً دفاعاً عن فلسطين والقدس والمسجد الأقصى، وإِنّ ما رأيناه في هَبّات الأقصى والقدس المُباركة من وحدة شعبنا في القدس والداخل الفلسطيني والمحافظات الشمالية والجنوبية وفي كلّ التجمعات الفلسطينية لدليل واضحٌ على ذلك.
المؤاخاة في المدينة
من المعلوم أنه عند قدوم الرسول -عليه الصلاة والسلام- إلى المدينة، كان هناك عداء تقليدي مُسْتحكم بين عرب المدينة، فجمعهم الرسول– عليه الصلاة والسلام- على الحق، وأصلح ما بين القبيلتين "الأوس والخزرج"، وأصبحا أخوة بعد عداء طويل، ثم آخى بين الأنصار-وهم أهل المدينة- وبين المهاجرين -أهل مكة- فأصبحوا إخواناً مُتحابين، وبعدئذ فتحوا البلاد وأصبحوا قادة للأمم في جميع مجالات الحياة.
فعلينا جميعًا أن نتأَسَّى بدرس المُؤاخاة بين المسلمين خصوصاً في مثل هذه الأيام، بمساعدة الفقراء والمُعوزين، وإدخال السرور على القلوب الحزينة ، ومساعدة العمال وأصحاب البسطات والسائقين وأصحاب الدّخل المحدود، ومساعدة المرضى خصوصاً أصحاب الأمراض المُزمنة وتوفير العلاج لهم، وكذلك مساعدة الخريجين والطلاب الفقراء خصوصاً في دفع رسومهم الجامعية، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه.
المسجد أساس التوحيد وسبيل الوحدة
من الجدير بالذكر أنّ بناء المسجد كان أول عمل قام به رسولنا -صلّى الله عليه وسلّم- لدى وصوله المدينة المنورة، حيث كان –صلّى الله عليه وسلّم- يُباشر العمل مع أصحابه- رضي الله عنهم أجمعين-، وينقل الحجارة بنفسه ، وكان الصحابة من المهاجرين والأنصار ينشدون وهم يبنون :
اللهُمَّ لا عيشَ إلا عيش الآخرة فاغفرْ للأنصارِ والمهاجرة
والمسجد هو روح المجتمع الإسلامي، و الرجال الذين يُربون فيه هم الذين يبنون النّهضات ، ويصنعون الحضارات ، وَيُكَوِّنون أرقى المجتمعات ، فالمسجد هو المكان الذي يجتمع فيه أبناء الأمة صباح مساء يذكرون الله سبحانه وتعالى ويعبدونه ، وهو المكان الذي يستوعب أبناء الأمة شيباً وشباباً، رجالاً ونساء، يقفون بين يدي ربهم كالجسد الواحد، حيث يقول -عليه الصلاة والسلام- : (سَوُّوا صُفُوفَكُمْ فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصُّفُوفِ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلاةِ ) (3).
فما أحوج شعبنا الفلسطيني المُرابط إلى الوحدة ورصّ الصفوف، ليكونوا كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحُمّى، فَسِرُّ قُوتنا في وحدتنا وإنّ ضعفنا في فُرقتنا وتخاذلنا.
درس التفاؤل والأمل
لقد حرَّم الإسلام اليأس وأوجد الأمل، وحرَّم التشاؤم وأوجد البديل وهو التفاؤل، وهذا درس الأمل والتفاؤل نتعلّمه من ذكرى الهجرة النبوية الشريفة، فهذا سُرَاقة بن مالك يلحق بالنبي – صلّى الله عليه وسلّم- ليظفر بجائزة قريش مائة من الإبل، لمن يأتي برسول الله –صلّى الله عليه وسلّم-حياً أو ميتاً، وعندما لحق سُرَاقة بالنبي –عليه الصلاة والسلام-، دعا عليه رسول الله–صلّى الله عليه وسلّم- فساخت أقدام فرسه في رمال الصحراء، ثم قال له الرسول – صلّى الله عليه وسلّم-: "كَيْفَ بكَ يا سُرَاقَةُ إذا لَبِسْتََ سِوَارَىْ كِسْرَى؟!"(4)، وفعلاً عاد سُرَاقة، ما الذي دفع الرسول –صلّى الله عليه وسلّم- إلى هذا القول؟! وفارس والروم كانتا أعظم قوتين في الأرض وقتئذ، الذي دفعه إلى ذلك هو إيمانه بربه، وثقته بنصره، وأمله في نصر الله للمؤمنين، وفعلاً تحقّق ذلك، وَنَفَّذَ عمر بن الخطاب – رضي الله عنه- عهدَ الرسول –صلّى الله عليه وسلّم –، وأعطى سُرَاقة سواري كسرى عندما فتح المسلمون بلاد فارس.
فعلينا أن نكون دائماً على يقين بنصر الله، مُتفائلين مهما اشتدّت الخُطوب واحْلَوْلَكَت الظلمات، فالليل مهما طال فلا بُدَّ من بزوغ الفجر، وإنّ الفجر آتٍ بإذن الله.
هذه بعض العِبَر والدّروس التي ينبغي لنا أن نستلهمها من ذكرى الهجرة النبوية، حيث إِنّ ذكرى الهجرة مُتَجدّدة مع الزمن، فيها من الدروس ما يتفق مع كلّ عصر وزمان ، فيها عبرة وَعِظَة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .
وصلّى الله على سيّدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
الهوامش: