الحمد لله ربّ العالمين والصَّلاة والسَّلام على رسوله الأمين محمد – صلّى الله عليه وسلّم -، وعلى آله وأصحابه الطَّيبين الطَّاهرين، ومن اقتفى أثرهم وسارَ على دربهم إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
يقول الله تعالى في كتابه الكريم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)(1).
جاء في كتاب صفوة التفاسير للصابوني في تفسير الآية السابقة: [{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} أي استعينوا على أمور دنياكم وآخرتكم بالصّبر والصّلاة، فبالصبر تنالون كلّ فضيلة، وبالصلاة تنتهون عن كلّ رذيلة {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} أي معهم بالنّصر والمعونة والحفظ والتأييد](2).
الصبر نصف الإيمان
فضيلة الصبر من أعظم الفضائل، فالصبر نصف الإيمان، والإيمان نصفه شكر ٌعلى النّعماء، ونصفه صبر ٌ على البأساء والضّرَّاء، ومَا مِنْ فضيلة إلاّ وهو دعامتها؛ لذلك فقد أمرَ الله سبحانه وتعالى به عباده المؤمنين كما جاء في قوله عزّ وجلّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(3)، والتَّحَلِّي بالصبر من شِيَمِ الأفذاذ الذين يتلَقَّوْن المكاره برحَابةِ صَدْرٍ وبقوّة إرادة، ونحن في هذه الأيام المباركة أحوج ما نكون إلى التَّحَلِّي بهذا الخُلُق الإسلامي الرفيع، فالواجب علينا ألاّ نحزن؛ لأنّ الصبر على المَكَارِه وتحمُّل الشّدائد طريق النّصر والفوز والنّجاح والسّعادة، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}(4).
إن أثبت الناس في البلاء وأكثرهم صبراً، أفضلهم عند الله منزلة وأجلّهم قدراً، كما رُوي عن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه - (قال: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاءً؟ قَالَ: "الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ) (5)، وما يبتلى الله عبده بشيء إلا ليطهره من الذنوب، أو يرفع قدره و يعظم له أجراً، وما وقع الصابر في مكروه إلا وجعل الله له من كل هَمٍّ فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً ، ومن ضاق بالقدر ذرعاً، وسخط قضاء الله، فاته الأجر وكان عاقبة أمره خسراً، والله عزّ وجلّ خاطب المؤمنين بقوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (6).
لذلك يجب علينا أن تكون ثقتنا بالله عظيمة، وأملنا قوي في غدٍ مُشرق عزيز بفضل الله، فما زالت الآيات القرآنية تتردَّد على مسامعنا :{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا *إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}(7)،تقول لنا جميعاً : سيأتي الفرج بعد الضّيق، واليُسْر بعد العُسْر، فلا نحزن ولا نضجر، فلن يغلب عُسْرٌ يُسْرين بإذن الله .
الاعتداءات الإسرائيلية على بلادنا المباركة
ما زالت قوات الاحتلال الإسرائيلي ترتكب الجرائم اليومية بحق أبناء شعبنا الفلسطيني المرابط في جميع محافظات الوطن، بهدف كَسْرِ إرادة شعبنا الفلسطيني والنَّيْل من حقوقه الوطنية، وما الاقتحامات اليومية للمسجد الأقصى المبارك وأداء صلوات تلمودية فيه، ومحاولات تقسيمه زمانيًا ومكانيًا، وكذلك الاعتداءات المُستمرة على أبناء شعبنا في كافة المحافظات بمصادرة أملاكهم وهدم منازلهم، والاجتياحات اليومية لِلمُدن والقرى والمخيمات الفلسطينية، وما العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة المُحاصر، هذا العدوان الإجرامي الذي خلَّف دماراً هائلاً أهلك الحرث والنّسل، وأصاب البشر والشجر والحجر، فقد اسْتُشْهِد أكثر من (47) شهيداً، منهم: (16) طفلاً و (5) سيدات، وهناك عائلات اسْتُشْهِدَ العديد من أفرادها، بالإضافة إلى أكثر من (360) جريحاً معظمهم من النساء والأطفال وكبار السن، وما نتجَ عن ذلك من تدمير للبيوت سواء بشكل كامل أو جزئي، وأصبحت مئات الأُسَرِ بلا مأوى، بالإضافة إلى انقطاعٍ للكهرباء والمياه، وها هي قوافل الشهداء ترتقي إلى العلياء، في القدس، وقطاع غزة، ونابلس (جبل النار)، وجنين، والخليل، ورام الله، وبيت لحم ...، وسائر مُدن وقرى ومخيمات شعبنا الفلسطيني، كلّ ذلك ليس عنّا ببعيد!.
الوحدة ... الوحدة...يا أبناء شعبنا المرابط
إنّ شعبنا الفلسطيني يتطلّع إلى تحقيق الوحدة الفلسطينية وإنهاء الانقسام، وفتح صفحة جديدة من الأُخوة والمحبّة، فوحدة أبناء شعبنا فريضة شرعية وضرورة وطنية، فليس هناك بعد تقوى الله – عَزَّ وَجَلَّ- أنفع لنا من جمع الشمل ورصّ الصفوف، وليس هناك أشدّ ضرراً علينا من الفُرقة والاختلاف، حيث إِنّ الاحتلال الإسرائيلي لا يُفَرِّق بين أبناء شعبنا المُرابط، فالجميع مُسْتَهدف من قبل المحتلين.
لذا فإنّ الواجب علينا أن نُوَحِّد كلمتنا، ونرصَّ صفوفنا؛ لنستعيد وحدتنا التي فيها سِرُّ قوتنا وعزّتنا وكرامتنا، ونتصدّى جميعاً للهجمة الإجرامية على مدينة القدس والمسجد الأقصى المبارك قبلة المسلمين الأولى ومسرى نبينا محمد – صلّى الله عليه وسلّم -، ونعمل معاً وسوياً على إقامة الدولة الفلسطينية المُستقلة وعاصمتها القدس الشريف إن شاء الله، وخروج جميع الأسرى والمعتقلين من سجون الاحتلال، وعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى وطنهم إن شاء الله .
واجب الأمة نصرة بيت المقدس وأكناف بيت المقدس
إِنّ الواجب على الأمتين العربية والإسلامية مُسَاندة الشعب الفلسطيني الذي يتعرض لهجمة شرسة طالت الأرض والإنسان والمُقدسات، حيث إِنّ سلطات الاحتلال الإسرائيلي تعمل على طمس الطابع العربي والإسلامي للمدينة المقدسة، ومحو معالمها التاريخية والحضارية؛ لتصبح مدينة يهودية، حيث نرى في كل يوم جرافات الاحتلال تدفن جُزءاً من تُراثنا، كما تتهيّأُ معاولُ الهدم لتقويض جزءٍ جديدٍ من مقدساتنا، لذا يجب على كلّ الأيدي الشريفة أن تمتدّ لنصرة القدس بصفة خاصة وفلسطين بصفة عامة في مِحْنتها، وأن تعمل كلّ ما في وسعها لوقف المجازر بحق أبناء شعبنا في جميع المحافظات، التي تتعرض لمجزرة بشعة، فَمِن قتلٍ للأبرياء، وهدمٍ للمساكن والبيوت على رؤوس أهلها، وتدميرٍ للبُنية التّحتية والمنشآت الصناعية والتجارية، وحرقٍ للمزارع، ومصادرةٍ للأراضي والمنازل، وإقامةٍ للمستوطنات، وكذلك ضرورة دعم المرابطين في بلادنا المباركة للحديث النبوي: عن ميمونة مولاة النبي - صلّى الله عليه وسلّم- قَالَتْ: (يَا رَسُوَلَ اللهِ، أَفْتِناَ فِي بَيْتِ الْمَقِدْسِ، قَالَ: أَرْضُ الْمَحْشَر ِوالْمَنْشَر، ائْتُوهُ فَصَلُّوا فيِه، فَإِنَّ صَلاَةً فِيِه كَأَلْف صَلاَة فِي غَيْرِهِ، قُلتُ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أَتَحَمَّلَ إليه؟ قال: فَتُهْدِي لَهُ زَيْتاً يُسْرَجُ فِيهِ، فَمَنْ فَعَلَ ذِلكَ فَهُوَ كَمَنْ أَتَاهُ)(8) .
فهذه دعوة نبوية إلى الأُمة العربية والإسلامية بوجوب الوقوف مع المُرابطين في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس ودعمهم ومساندتهم؛ كي يبقوا مُحافظين على مسرى الرسول -عليه الصلاة والسلام- من اعتداءات المُعتدين صباح مساء.
فلسطين مقبرة الطغاة
على أرض فلسطين- وعلى مَرِّ التاريخ- هُزم الطُّغاة وتحطّمت جميع المؤامرات، فالتّتار الذين أهلكوا الحرث والنّسل، ودخلوا بغداد وقتلوا الخليفة وَنَكَّلُوا بالمسلمين، كانت نهايتهم في فلسطين في معركة عين جالوت، والصليبيون الذين عاثوا في الأرض فساداً، كانت نهايتهم في فلسطين في معركة حطين .
ونابليون بونابرت الذي احتل الشرق والغرب، عمل جاهداً على احتلال مدينة عكا بفلسطين، لكنه فشل فألقى بقبعته من فوق أسوارها، وقال: هنا تحطّمت أحلام نابليون.
ومن المعلوم أنّ فلسطين قد لفظت المحتلين عبر التاريخ، وسوف تلفظ هذا المحتل وَتُحَرَّر أرضُها ومقدساتها إن شاء الله.
ومن الجدير بالذّكر أنّ أرض فلسطين مقبرة الطغاة، حيث شهدت نهاية أمم ظالمة، وقد أكّدت الأحاديث النبوية الشريفة أنّ نهاية الدّجال، ويأجوج ومأجوج، ستكون أيضاً على أرض فلسطين المباركة إن شاء الله.
وليعلم الجميع بأنّ الباطل مهما قويت شوكته وَكَثُرَ أعوانه فلا بُدَّ له من يوم يَخِرُّ فيه صريعًا أمامَ قُوّة الحق والإيمان، (كَذَلِكَ يَضرِبُ ٱللَّهُ ٱلحَقَّ وَٱلبَاطِلَ فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمكُثُ فِي ٱلأَرضِ كَذَلِكَ يَضرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمثَالَ) (9) .
فلسطين تقول لكم: سوف يتراجع الظّلم، وينهزم الأعداء، فالليل مهما طال فلا بُدَّ من بزوغ الفجر، وإِنَّ الفجر آتٍ بإذن الله رغم أعداء شعبنا كلهم.
وعلينا أنْ نتضرّعَ جميعاً إلى الله بالدّعاء، بأن يحمي شعبنا ومقدساتنا من كلّ سوء، وأن يرحم شهداءنا، ويشفي جرحانا، ويُعَجِّل بالحرية لأسرانا، ويكشف الغُمَّة عن وطننا الغالي فلسطين، ويصرف عن بلادنا المباركة الوباء والبلاء والغلاء ... آمين ... يا ربّ العالمين .
نسأل الله تعالى أن يُيَسِّر أمورنا، ويُطَهِّر قلوبنا، ويُصلح ذات بيننا
وصلّى الله على سيّدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
الهوامش: