الحمد لله ربّ العالمين والصّلاة والسّلام على رسوله الأمين محمّد – صلّى الله عليه وسلّم -، وعلى آله وأصحابه الطّيبين الطّاهرين، ومن اقتفى أثرهم وسار على دربهم إلى يوم الدّين، أمّا بعد:
عندما يهلّ هلال شهر ربيع الأول في كلِّ عام، يتذكّر المسلمون ميلاد حبيبهم ورسولهم مُحمّد– صلّى الله عليه وسلّم-، فهو رسول البشريّة بأسرها ، ومثال الإنسانيّة في أتمّ صورها، وهو رحمة الله للعالمين وخاتم النّبيّين، فمولده -صلّى الله عليه وسلّم- كان إيذاناً بالنّور السّاطع الذي بَدَّدَ ظُلمات الجاهليّة وعبادة الأصنام، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى : {قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ}(1)، فما أفضل هذه الأيّام المُباركة من شهر ربيع الأول!، نتفيَّأ ظلالها، ونتعلّم من دروسها وعِظَاتها، إنّها ذكرى ميلاد الرّحمة المُهداة والنّعمة المُسداة والسِّراج المُنير سيِّدنا مُحمّد – صلّى الله عليه وسلّم–.
لقد كان العالم كلّه في أَمَسِّ الحاجة إلى مُصلح ومُنقذ، ذي هِمَّة عالية وعزيمة ماضية، وجاء مُحمّد – صلّى الله عليه وسلّم -، فكان الرّسول الكريم –عليه الصّلاة والسّلام - الذي يتطلّع إليه العالم ليكون مُنقذاً لهم من شقاء الجاهليّة وضلال الوثنيّة، ومُخرجاً لهم من الظّلمات إلى النّور.
سلامٌ عليك يا سيِّدي يا رسول الله
سلامٌ عليك يا سيِّدي يا رسول الله، أنتَ دعوة سيِّدنا إبراهيم- عليه الصّلاة والسّلام- كما جاء في قوله سبحانه وتعالى:{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ}(2)، فكنتَ أنتَ هذه الدّعوة المُباركة، وما أجملها وما أجلَّها!!، وأنتَ بشارة أخيك عيسى- عليه الصّلاة والسلام- كما جاء في قوله سبحانه وتعالى : {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}(3)، فكنتَ أنت يا سيِّدي يا رسول الله هذه البشارة، ولله دَرّ القائل:
البدرُ دونكَ في حُسْنٍ وفي شَرَفِ والبحرُ دونكَ في خيرٍ وفي كَرمِ
أخوك عيسى دَعَا ميتاً فقــــامَ له وأنتَ أَحْيَيْتَ أجيـالاً من العَــدَمِ
رسولنا -صلّى الله عليه وسلّم- سيّد البشر
لقد فضَّل الله سبحانه وتعالى رسولنا -صلّى الله عليه وسلّم- على غيره من الأنبياء، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى:{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ}(4)، وكما جاء في قوله – صلّى الله عليه وسلّم–:( فُضِّلْتُ عَلَى الأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ: أُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ، وَجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وطَهُورًا، وَأُرْسِلْتُ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً، وَخُتِمَ بِيَ النَّبِيُّونَ)(5)، وقد أشار رسولنا– صلّى الله عليه وسلّم– إلى ذلك بقوله: (أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ، وَأَوَّلُ شَافِعٍ، وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ) (6)، كما ثبت عنه – صلّى الله عليه وسلّم– أنه قال:) إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ –عليه الصّلاة والسّلام-، وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ ) (7).
ومن المعلوم أنّ الله سبحانه وتعالى قد اصطفى نبيّنا – صلّى الله عليه وسلّم– على جميع الأنبياء والمرسلين، فجعله لهم خاتماً وإماماً، حيث صلَّى بهم– صلّى الله عليه وسلّم– إماماً في المسجد الأقصى المبارك ليلة الإسراء والمعراج .
الاقتداء بصاحب الذّكرى -صلّى الله عليه وسلّم-
في مثل هذه الذّكريات الطّيّبة يُجدّد المسلمون اقتداءهم بصاحب الذّكرى – صلّى الله عليه وسلّم – وسَيْرهم على هَدْيه – عليه الصّلاة والسّلام- ؛ حتى يُحَقّقوا خيريَّتَهم في هذا العالم؛ لأنّه لن تتحقَّق خيريَّتُهم إلا باتّباع هديه وتعاليمه – عليه الصّلاة والسّلام-؛ لقوله سبحانه وتعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}(8)، وقد تَوَعَّدَ الله سبحانه وتعالى المُعْرضين عن هَدْيِه– صلّى الله عليه وسلّم–، المُخالفينَ أمرهُ بالعذاب الأليم، كما جاء في قوله عزَّ وجلَّ:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(9).
ومن المعلوم أنّ رسولنا – صلّى الله عليه وسلّم – قدْ دعا الناس للعبادة فكان أعبدَ الناس، ودعاهم إلى مكارم الأخلاق فكان – عليه الصّلاة والسّلام- أسمى النّاس، كما وصفه ربُّه في قوله سبحانه وتعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}(10)، فرسولنا – صلّى الله عليه وسلّم –رفع من شأن الأخلاق في حياة الإنسان، كما جاء في قوله – صلّى الله عليه وسلّم- : (إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاقِ) ( 11)، وحثَّ على التّمسّك بالأخلاق الكريمة، مثل: الصّدق والوفاء والكرم والشّجاعة، ودعا إلى توثيق الرّوابط الاجتماعيّة، مثل: برّ الوالدين وصلة الأرحام والإحسان إلى الجار وطبّق ذلك عمليًّا، ونهى عن الأخلاق السّيّئة وابتعدَ عنها وحذّر منها، مثل : الكذب والغدر والحسد والزّنا وعقوق الوالدين، وعالج المشكلات الناتجة عنها.
توقير النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-
إِنَّ الواجب علينا في هذه الذّكرى العطرة أن نؤكّد على وجوب توقير الأُمّة لنبيِّنا – صلّى الله عليه وسلّم- وذلك باتّباع سُنّته وتعظيم أمره وقبول حُكْمِه؛ تنفيذاً لقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا* لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} (12)، وجاء في كتاب تفسير القرآن العظيم لابن كثير في تفسير الآيتين السّابقتين : [ يقول تعالى لنبيّه محمّد – صلّى الله عليه وسلّم-: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا}أي على الخلق، {وَمُبَشِّرًا} أي للمؤمنين، {وَنَذِيرًا} أي للكافرين، {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ} قال ابن عباس-رضي الله عنهما- وغير واحد: تُعظِّموه، {وَتُوَقِّرُوهُ} من التّوقير وهو الاحترام والإجلال والإعظام، {وَتُسَبِّحُوهُ} أي تسبحون الله{بُكْرَةً وَأَصِيلاً} أي أول النَّهار وآخره)(13).
لقد أَجَلَّتْهُ – صلّى الله عليه وسلّم – العقول وأحبّته القلوب، وشهد بأمانته وصدقه وفضله القريب والبعيد، والعدُّو والصديق، ولا يزال ذكرهُ خالداً إلى يوم الدّين، كما قال الشاعر :
ألمْ تَرَ أنَّ الله أَخْلـــــدَ ذِكــــــــــرَهُ إذا قَالَ في الخَمْسِ المُؤَذِّن أشهـــدُ
وشقَّ لَهُ من اسمـــــــهِ لِيُجلَّـــــهُ فذُو العَرْشِ محمودٌ وهذا محَمَّــــدُ
فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي
لقد سلكَ نبيّنا -صلّى الله عليه وسلّم - المنهج الوسط في خطابه، وجعل ذلك سُنَّته في دعوة الناس، وممّا يدلّ على ذلك ما أخرجه الإمام البخاريّ في صحيحه عن أنس بن مالك - رضي الله عنه- قال: (جَاءَ ثَلاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ؟ قَدْ غَفَرَ اللهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلا أُفْطِرُ، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ، فَقَالَ: أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟ أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي) (14).
عند قراءتنا لهذا الحديث الشّريف نجد أنّه يُعالج الغُلُوّ والتَّشدد بشكل مُقْنع، فقد كان الدّافع وراء غُلُوِّ هؤلاء، أنّهم رأوا اجتهاد رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم– في العبادة، على الرَّغم من مغفرة الله سبحانه وتعالى له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، وأَحَسُّوا أنّهم دون رسول الله– صلّى الله عليه وسلّم– بكثير ، وقد ظهر هذا من قولهم : وأين نحن من رسول الله– صلّى الله عليه وسلّم- ؟، وظنّوا أنّهم بتشدّدهم وغُلُوِّهم في العبادة سيكونون أكثر قُرْباً من الله وتعبُّداً، فأزال النّبيّ–صلّى الله عليه وسلّم – هذه الشُّبْهة من تفكيرهم بقوله – صلّى الله عليه وسلّم -: (إِنِّي لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي).
فلنحرصْ جميعاً على السّير على هَدْيِه واتّباع سُنَّته- صلّى الله عليه وسلّم - ، والعمل على نشرها في النّاس؛ كي يسعد النّاس في دنياهم وَأُخْراهم.
صلاة الله وسلامه عليك يا سيِّدي يا رسول الله، يا صاحب المقام المحمود والحوض المورود، وَمَنْ آتاه الله سبحانه وتعالى الفضيلة والوسيلة والدّرجة العالية الرّفيعة، يا خاتم الأنبياء والمُرسلين.
وصلّى الله على سيِّدنا محمّد وعلى آله وأصحابه أجمعين
الهوامش :
1-سورة المائدة الآية (15)
2- سورة البقرة الآية(129)
3- سورة الصف الآية (6)
4- سورة البقرة الآية (253)
5-أخرجه الترمذي
6- أخرجه مسلم
7- أخرجه مسلم
8- سورة الأحزاب الآية (21)
9- سورة النور الآية (63)
10- سورة القلم الآية (4)
11- أخرجه البيهقي
12- سورة الفتح الآية (8-9)
13- تفسير القرآن العظيم لابن كثير4/236
14-أخرجه البخاري