الحمد لله ربّ العالمين والصَّلاة والسَّلام على رسوله الأمين محمد – صلّى الله عليه وسلّم -، وعلى آله وأصحابه الطَّيبين الطَّاهرين، ومن اقتفى أثرهم وسارَ على دربهم إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
أخرج الإمام البخاري في صحيحه عن ابن عباسٍ – رضي الله عنهما – قال : قالَ رَسولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- لِمُعَاذِ بنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إلى اليَمَنِ: ( إنَّكَ سَتَأْتي قَوْمًا أهْلَ كِتَابٍ فَإِذَا جِئْتَهُمْ، فَادْعُهُمْ إلى أنْ يَشْهَدُوا أنْ لا إلَهَ إلاَّ اللَّهُ وأنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللَّهِ، فإنْ هُمْ أطَاعُوا لكَ بذلكَ، فأخْبِرْهُمْ أنَّ اللَّهَ قدْ فَرَضَ عليهم خَمْسَ صَلَوَاتٍ في كُلِّ يَومٍ ولَيْلَةٍ، فإنْ هُمْ أطَاعُوا لكَ بذلكَ، فأخْبِرْهُمْ أنَّ اللَّهَ قدْ فَرَضَ عليهم صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِن أغْنِيَائِهِمْ ، فَتُرَدُّ علَى فُقَرَائِهِمْ، فإنْ هُمْ أطَاعُوا لكَ بذلكَ، فَإِيَّاكَ وكَرَائِمَ أمْوَالِهِمْ، واتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ، فإنَّه ليسَ بيْنَهُ وبيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ) (1).
هذا حديث صحيح أخرجه الإمام البخاري في صحيحه، كتاب الزكاة – باب أخذِ الصدقة من الأغنياء وتُرَدّ في الفقراء حيثُ كانوا.
تمرّ بنا في هذه الأيام ذكرى اليوم العالمي للقضاء على الفقر، والتي تأتي في السابع عشر من شهر أكتوبر في كل عام ، ونحن هنا نبيِّن وجهة نظر الإسلام كي يكون المسلم على بيّنة من أمره.
من المعلوم أنّ الفقر من الأمراض التي يُعاني منها المجتمع، وإذا أُهْمِلَ علاجه كان وَبَالاً على المجتمع وخطراً على أمنه واستقراره، كما أنّ الفقير الذي يفتقد المُواساة والمُساعدة من المجتمع قَدْ يَعُضُّهُ الجوع ويدفعه إلى اليأس حين لا يجدُ قلباً نابضاً بالخير ولا يَداً حانية عليه بالإحسان ، ومن أجل ذلك فقد فرض ديننا الإسلامي الحنيف الزكاة ، فهي حقٌّ للفقراء على الأغنياء، ثم حدّدت الشريعة الإسلامية الغرّاء مصارفها تحديداً يكفل للمجتمع حياة سعيدة رغيدة ويُقيم دعائمه على أُسُسٍ قوية راسخة ، ولو وعى المسلمون فقه الزكاة ما كان بينهم فقير ولا جائع ولا عاطل ولا عاجز ولا جاهل.
كيف عالج الإسلام مشكلة الفقر ؟
لقد وضع الإسلام نظاماً اقتصاديًّا مُتكاملاً لحلِّ مشكلة الفقر، لو سَارَ عليه البشر لعاشوا حياة سعيدة، ولما رأينا جائعاً واحداً، فقد حثَّ المسلمين على وجوب الاعتقاد بأنَّ الله هو الرزَّاق كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: ( وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا ۚ كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ)(2 )، وأمرهم بجمع المال من طُرُق الحلال، ونهى عن كنز المال، وحثّ على الإنفاق في سبيل الله، وعلى الفقراء والمساكين ومُساعدة المحتاجين وتفريج كروبهم والتيسير عليهم ، كما جاء في قوله -صلّى الله عليه وسلّم–: (...ومنْ فَرَّجَ عنْ مُسلمٍ كُرْبةً ، فَرَّجَ اللَّهُ عنه كُرْبةً من كُرُبَاتِ يَوْمِ القيامةِ)(3)، وحرَّم الإسلام الرّبا كما جاء في قوله عزَّ وجلَّ: {يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ}(4 )، ووضع الكفّارات والنذور مُساعدة للفقراء، وفرض الزكاة كحقٍّ للفقراء في مال الأغنياء، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ* لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}(5)، وحثَّ أتباعه على العمل حتى عند قيام الساعة، لقوله-عليه الصّلاة والسّلام-: ( إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ)(6)، ووضع قاعدة لتوزيع الإرث بحيث يأخذ كلُّ إنسان حقَّه، ودعا إلى البذل والإيثار وترك الشّحّ والبخل والأنانية وحبّ الذات، وبيّن أنَّ المسلمين كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحُمّى والسهر.
فضـل الإنفاق على الفقـراء
لقد حثّ ديننا الإسلامي الحنيف على الإنفاق ، حيث بيّن بأنّه علامة على صِدْق الإيمان وكماله، كما جاء في قوله – صلّى الله عليه وسلّم - :(...وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ)(7 )، وقد أعدَّ الله سبحانه وتعالى مثوبة وأجراً كبيرًا للمُنفقين، كما جاء في قوله – صلّى الله عليه وسلّم – عندما سُئل(... أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا؟ قَالَ: أَنْ تَصَدَّقَ، وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ، تَخْشَى الْفَقْرَ ، وَتَأْمُلُ الْغِنَى، وَلا تُمْهِلُ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ، قُلْتَ: لِفُلانٍ كَذَا وَلِفُلانٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلانٍ) (8)، وقوله – صلّى الله عليه وسلّم- أيضاً: (مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلا مَلَكَانِ يَنْزِلانِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا) ( 9) ، وكذلك حَثُّه – صلّى الله عليه وسلّم– على إطعام المحتاج، وسقي الماء، حيث إِنّ ذلك كلّه من مكارم الأخلاق التي يدعو إليها الإسلام، ومن المعلوم أَنَّ الإنفاق حين يكون في حالة اليُسر أو في حالة السرّاء يكون أمراً طبيعيًّا، لكن حين يكون في حالة العُسر أو في حالة الضرّاء ، فإنّه يحمل دلالة مثالية على مصداقية الإيمان والتكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع الإسلامي، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}(10).
الفقـــر ابتـــلاء
من المعلوم أَنَّ المال في الإسلام نعمة من النّعم كما جاء في قوله - صلّى الله عليه وسلّم- : (نِعْمَ المالُ الصَّالحُ للرَّجلِ الصَّالحِ) (11) ، ومن المال الصالح تبرّع الصحابة- رضي الله عنهم أجمعين- لإطعام الفقراء ، وبذل المعروف وإغاثة الملهوف ، وتفريج الكُربة عن المكُروب ، ومنه اشترى سيّدنا عثمان– رضي الله عنه – بئر رومة ، ومنه جَهَّز جيش العُسرة.
إِنَّ الفقر لَوْنٌ من ألوان الابتلاء، فالله يبتلي الإنسان بالفقر والغنى كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ *وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} (12) ، وورد عنه – صلّى الله عليه وسلّم - أنّه كان يستعيذ بالله من الفقر والجوع ، حيث نجدُ ذلك في الأذكار والأدعية ، منها قوله – صلّى الله عليه وسلّم - : (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ النَّارِ وَعَذَابِ النَّارِ، وَفِتْنَةِ الْقَبْرِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ، وَشَرِّ فِتْنَةِ الْغِنَى، وَشَرِّ فِتْنَةِ الْفَقْرِ...) (13)، وقوله –صلّى الله عليه وسلّم- أيضاً : ( اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِن الْكُفْرِ، وَالْفَقْرِ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ) ( 14).
لقد امْتَنَّّ الله سبحانه وتعالى على قريش بنعمتي الطعام والأمن كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {لإِيلافِ قُرَيْشٍ* إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ* فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ}(15)، فهاتان النعمتان من أجَلِّ نعم الله على البشرية، بينما نجد أَنَّ الجوع والخوف هما شَرُّ ما تُبْتلَى به البشرية، كما جاء في قوله عزَّ وجلَّ: {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} (16).
الزكاة ... وأثرها على المجتمع
لقد كرَّم الله سبحانه وتعالى الإنسان، وجعله سَيِِّدَ هذا الكون، ونحن نرى أَنَّه يوم طُبِّق الإسلام وعَمَّ نوره الكون انتشر العدل على وجه الأرض، فقد وجدنا أَنَّ عامل الزكاة كان يجمع الزكاة فلا يجدُ فقراء يستحقّونها، وهذا يدلّ على حال المسلمين الطّيبة وقتئذ، حتى إِنَّ عمر بن عبد العزيز- رضي الله عنه - كان يأمرُ عامله أن يُنادي أين الغارمون؟ أين الذين يُريدون الزواج؟ وقد يتوهّم مُتَوَهِّمٌ بأنّ الحال الطّيبة والمُعاملة الحسنة من المسلمين كانت مقصورة عليهم، فنقول: لا، إنّها ليست مقصورة على المسلمين بل شملت غيرهم من أهل الكتاب والبلاد المفتوحة.
نداء إلى أهل الخيـر والعطـاء
عند دراستنا للسُّـنَّة النبوية الشريفة نجد أنَّ الله عزَّ وجلَّ قد غَفَرَ لرجل خَطّاء كثير الذنوب ، وفي رواية لامرأة بغيّ؛ لأنّهما سقيا كلباً وجداه يأكل الثرى من العطش ، فما بَالُكَ بمن يسقي ظمآن ، أو يُطعم جائعاً ، أو يكسو عُرْياناً ، أو يمسح رأس يتيم ، أو يُدخل السرور على قلوب الفقراء والثكالى والمحزونين ؟؛ لذلك يجب على الأغنياء إخراج زكاة أموالهم والتصدّق على الفقراء والمحتاجين، ومن أشكال الصدقات والبرّ خصوصاً في مثل هذه الأيام – ونحن مُقبلون على فصل الشتاء- مساعدة الفقراء والمعوزين بشراء الملابس الشتوية لهم، وتجهيز بيوتهم وصيانتها من برد الشتاء، وإدخال السرور على القلوب الحزينة بما أفاء الله عليهم من النّعم، ومُساعدة المرضى خصوصاً أصحاب الأمراض المُزمنة وتوفير العلاج لهم، وكذلك مُساعدة الطلاب الفقراء خصوصاً في رسومهم الجامعية والمدرسية، والله في عون العبد مادام العبد في عون أخيه.
فَحَرِيٌّ بأبناء الأمتين العربية والإسلامية أن يتعاونوا على حلِّ مشكلة الفقر المنتشرة في مجتمعاتنا عن طريق التكافل الاجتماعي ومساعدة الأغنياء لإخوانهم الفقراء؛ ليعيشوا حياة كريمة طيبة، فالمؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضا .
وصلّى الله على سيّدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
الهوامش :