2023-06-11

العفو شأن العظماء... ودأب الأتقياء


2022-11-25

الحمد لله ربّ العالمين والصّلاة والسّلام على رسوله الأمين محمّد – صلّى الله عليه وسلّم -، وعلى آله وأصحابه الطّيبين الطّاهرين، ومن اقتفى أثرهم وسار على دربهم إلى يوم الدّين، أمّا بعد:

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم : {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}(1 ).

يأمرنا الله سبحانه وتعالى في هاتين الآيتين الكريمتين بالعفو والصَّفح عمَّن أساء إلينا والإحسان إليه؛ ابتغاء رضوانه سبحانه وتعالى وطَمَعاً فيما أعدّه عزَّ وجلَّ للعافين من حُسْن الجزاء، فالعفو شأن العظماء وخُلُق الأنبياء ودأْبُ الأتقياء، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}(2)، وقوله سبحانه وتعالى أيضاً: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}(3).

إِنَّ العفوَ من أبرز أخلاق الرسول – صلّى الله عليه وسلّم – ومن أشهر طباعه، ومن أَجَلِّ صفاته وسجاياه- عليه الصّلاة والسّلام-، فالعفوُ عن المُسيء من أفضل الصّفات التي يجب علينا أنْ نَتحلّى بها، ولو  علمنا ما في العفو من حكمة وسلامة وأجر لأسرعنا بالعفو والصّفح عن زلاّت المُسيئين.

الإسلام... وخُلُق العفو

إِنَّ ديننا الإسلامي الحنيف لم يترك فضيلة من الفضائل التي يتحقّق بها الخير للإنسان وللمجتمع إلاّ ودعا إلى التَّحَلِّي بها والالتزام بتطبيقها، ومن هذه الفضائل: العفو والصّفح ، فالعفو من صفات العُظَمَاء، إِذْ لا يقدر على التَّحَلِّي به إلاّ مَنْ تَعَالَى على الصّغائر وتَسَامَى في آفاق الكمال، وتغاضى عن هفوات الآخرين وزلاّتهم.

   لقد غَرَسَ ديننا الإسلامي المعاني الإنسانية والأخلاقية السامية في نفوس المؤمنين، ورسمَ لهم منهجاً يقوم على العفو والصّفح، كما جاء في كثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وعندما نتصفّح كُتب السّيرة والتاريخ فإنّنا نجد صفحات مُشرقة من العفو والصّفح، فما أحوجنا  اليوم إلى التَّحلِّي بهذا الخُلق العظيم، فالعفو من سِمَات الصّالحين المُتّقين، الذين طَهرت قلوبهم وعَلَتْ عند الله درجاتهم.

عفو النّبيّ – صلّى الله عليه وسلّم – عن فُضَالة بن عُمير الليثي

 لقد كان رسولنا – صلّى الله عليه وسلّم – أعظم الناس عفواً، وأحسنهم صَفْحاً، فهو الأسوة الحسنة في العفو والصّفح وحُسْن التّعامل مع الآخرين ، فقد ذكر الإمام ابن حجر في  الإصابة: أَنَّ فُضَالة بن عُمَيْر الليثي ذهب قاصداً قتلَ النّبيّ– صلّى الله عليه وسلّم – أثناء طوافه بالبيت، فلمّا دَنَا منه، قال الرّسول– صلّى الله عليه وسلّم- : "أفضالة؟!" قال: نعم، فضالة يا رسول الله، قال: ماذا كنتَ تُحَدِّث به نفسك ؟ قال: لا شيء، كنتُ أذكر الله!، فضحك النّبيّ– صلّى الله عليه وسلّم–، ثُمّ قال: استغفر الله، ثم وضع يده على صدره فَسَكَنَ قلبه، فما كان من فُضالة إلا أَنْ قال: والله ما رفع يده عن صدري حتى مَا مِنْ خَلْقِ الله أحبّ إليَّ منه، وأسلم فُضالة بهذا العفو الكريم والصّفح الجميل من رسول الله–صلّى الله عليه وسلّم-، وزالت من قلبه العداوة، حلَّت محلَّها محبّته-صلّى الله عليه وسلّم-.

تأمّل أخي القارئ الكريم هذا الموقف النّبويّ العظيم الذي  يُبَيِّن مدى عفوه- صلّى الله عليه وسلّم- وَصَفْحه عن الآخرين، وأنّه كان يُقابل الإساءة بالإحسان، كما جاء في قوله تعالى:{ وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}(4).

عفو النبي– صلّى الله عليه وسلّم –  عن ثُمامة بن أثال

أخرج الإمام البخاري في صحيحه عن أَبِي هُرَيْرَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ ):بَعَثَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَيْلاً قِبَلَ نَجْدٍ، فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ يُقَالُ لَهُ: ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ، فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟ فَقَالَ: عِنْدِي خَيْرٌ، يَا مُحَمَّدُ إِنْ تَقْتُلْنِي تَقْتُلْ ذَا دَمٍ ، وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ مِنْهُ مَا شِئْتَ،  فَتُرِكَ حَتَّى كَانَ الْغَدُ ثُمَّ قَالَ لَهُ: مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟ قَالَ: مَا قُلْتُ لَكَ: إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، فَتَرَكَهُ حَتَّى كَانَ بَعْدَ الْغَدِ فَقَالَ: مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟ فَقَالَ:  عِنْدِي مَا قُلْتُ لَكَ، فَقَالَ: أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ،  فَانْطَلَقَ إِلَى نَخْلٍ قَرِيبٍ مِنْ الْمَسْجِدِ فَاغْتَسَلَ ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، يَا مُحَمَّدُ،  وَاللَّهِ مَا كَانَ عَلَى الأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ، فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ إِلَيَّ ، وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ دِينٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ دِينِكَ،  فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيَّ، وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ بَلَدِكَ،  فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ الْبِلادِ إِلَيَّ،  وَإِنَّ خَيْلَكَ أَخَذَتْنِي، وَأَنَا أُرِيدُ الْعُمْرَةَ،  فَمَاذَا تَرَى ؟ فَبَشَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ، فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ قَالَ لَهُ قَائِلٌ:  صَبَوْتَ ؟ قَالَ:  لا  والله ِ ، وَلَكِنْ أَسْلَمْتُ مَعَ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ،  وَلا وَاللَّهِ لا يَأْتِيكُمْ مِنْ الْيَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ حَتَّى يَأْذَنَ فِيهَا النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ) (5).

لقد ضرب رسولنا – صلّى الله عليه وسلّم – أروع الأمثلة في العفو والصَّفْح، فقد كان- عليه الصّلاة والسّلام- لَيِّن الجانب، طَيِّب المُعاملة ، سَمْحاً في كلّ الأمور حتى مع أعدائه الذين حاربوه من قبل، كما حدث مع ثُمامة بن أُثال الذي عرض عليه الإسلام ثلاث مرات ، وكان لا يقبل في كلّ مرّة ، حتى أمرَ النبيّ – صلّى الله عليه وسلّم – بإطلاق سراحه ، فكان هذا العفو والصَّفْح سبباً في دخول الرجل في الإسلام ، وقال : أشهد أَنْ لا إله إلا الله وأشهد أَنَّ مُحمّداً رسول الله، وَأَقرَّ الرجل بما كان عليه قبل هذه المُعاملة السَّمْحة مِنْ عداوة وكراهية للإسلام ، لكن كلّ شيء قد تغيّر بفضل الله سبحانه وتعالى، ثم بِخُلُقِ العفو والصَّفْح الذي عامل به رسولنا – صلّى الله عليه وسلّم – ثُمامة، وهكذا أَثَّرت هذه المُعاملة الحسنة والخُلُق الكريم  في استمالة قلب رجل غير عادي ، فهو ليس من بُسطاء الناس أو سُذّجهم ، بل هو سَيِّد قومه ، ولم يكن إسلامه إسلام تقيّة أو خوفاً على نفسه وحياته – رضي الله عنه-.

عفو أبي بكر الصديق  – رضي الله عنه – عن ابن خالته

من الواجب على المسلمين أنْ يصلوا أرحامهم ، وأَنْ يعفوا ويصفحوا عنهم ويغفروا زلاَّتهم ، وما قصة أبي بكر الصديق – رضي الله عنه – مع قريبه مسطح بن أثاثة، الذي خاض مع الخائضين في حديث الإفك، وقال في أُمِّ المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق– رضي الله عنهما – ما قال عنّا ببعيد، كما جاء في قوله تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(6) .

جاء في كتاب تفسير التحرير والتنوير للإمام الشيخ ابن عاشور: (وإِنّ من ذيول قصة الإفك أَنّ أبا بكر -رضي الله عنه- كان يُنفق على مسطح بن أثاثة المُطَّلبي، إِذْ كان ابن خالة أبي بكر الصديق وكان من فقراء المهاجرين، فلمّا علم بخوضه في قضية الإفك أقسم أَنْ لا يُنفق عليه ، ولمّا تاب مسطح وتاب الله عليه لم يزلْ أبو بكرٍ واجداً في نفسه على مسطح  فنزلت هذه الآية ، فالمُراد من أولي الفضل ابتداءً أبو بكر ، والمُراد من أولي القربى ابتداءً مسطح بن أثاثة ، وتعمّ الآية غيرهما مِمَّن شاركوا في قضية الإفك وغيرهم مِمَّن يشمله عموم لفظها، فقد كان لمسطح عائلة تنالهم نفقة أبي بكر.

 قال ابن عباس: إِنَّ جماعة من المؤمنين قطعوا منافعهم عن كلّ مَنْ قال في الإفك، وقالوا : والله لا نَصِلُ مَنْ تكلَّم في شأن عائشة ، فنزلت الآية في جميعهم.

 وَلَمّا قرأ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم - الآية إلى قوله{ أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ}، قال أبو بكر: بلى، أُحِبُّ أن يَغْفر الله لي ، وَرَجَّع إلى مسطح وأهله ما كان يُنفق عليهم ، قال ابن عطية: وكَفَّرَ أبو بكر عن يمينه ، رواه عن عائشة)(7).

أخي القارئ: تَصَوّر فقيراً تُحسن إليه ثم يتكلّم في عِرْضك، فتعفو عنه وتُحسن إليه مرة أخرى، مَنْ يفعل هذا؟ مَنْ يشتري الجنّة، مَنْ يشتري المغفرة إِلاّ أصحاب النفوس العالية.

 هذا هو المجتمع الفاضل الذي ينشده الإسلام، مجتمع حُبٍّ وَوُدٍّ ومروءةٍ وخير وعفوٍ وصَفْحٍ جميل، ودعونا نتساءل: هل نخرَ مجتمعنا إلا البُعد عن خُلُق العفو والصّفح؟، فالواجب علينا جميعاً أَنْ نبتعد عن الحقد والغلّ والحسد، وأَنْ نتحلّى بالأخلاق الفاضلة وفي مُقدّمتها العفو والصّفح، فعلى القريب أَنْ يعفو عن أقربائه، والجار أَنْ يصفح عن جاره، والصّديق أَنْ يحلم على صديقه، وأَنْ نُردّد جميعاً قوله عزَّ وجلَّ في كلّ وقت: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} .

وصلّى الله على سيّدنا محمد  وعلى آله وصحبه أجمعين

الهوامش:

  1. سورة آل عمران الآية (133-134)                               
  2.  سورة البقرة الآية (237)
  3.  سورة الأعراف  الآية (199)
  4. سورة فصلت الآية (34) 
  5. أخرجه البخاري           
  6. سورة النور الآية (22)
  7. تفسير التحرير والتنوير لابن عاشور   18/188-189