تمرّ بنا في هذه الأيام ذكرى اليوم العالمي للعمل التّطوعي، والتي تأتي في الخامس من شهر ديسمبر من كلّ عام، ونحن هنا نُبيّن وجهة نظر الإسلام كي يكون المسلم على بَيِّنة من أمره.
لقد دعا ديننا الإسلامي الحنيف إلى المشاركة في العمل التّطوّعي والخيري وحثّ عليه، وجعله من أسمى الطّاعات وأعظم القُربات إلى الله سبحانه وتعالى؛ لِمَا له من دور عظيم في تقوية أواصر المحبة والأخوة في المجتمع، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}(1)، والعمل التّطوّعي سِمَةُ كلّ مجتمع سليم، لا سِيَّما المجتمع المسلم الذي يستقي هذا العمل من كتاب الله سبحانه وتعالى وسُنّة رسوله – صلّى الله عليه وسلّم-، فالعمل التّطوّعي والخيري من الأمور التي تُقوّي المجتمع وتزيد من تماسك أفراده، وتغرس فيهم قِيَماً جميلة، مثل: التعاون والتكافل، ونشر المودّة فيما بينهم.
ومن الأعمال الجليلة التي نراها اليوم نشر ثقافة العمل التّطوّعي بين أفراد المجتمع، حيث تشارك شرائح عديدة من مجتمعنا في أعمال تطوّعية مختلفة، مثل: الجمعيات الخيرية، ولجان الزكاة، ومساعدة المرضى، وكفالة الأيتام، ومساعدة طلبة العلم، وحملات التبرّع بالدم ... الخ.
الإسلام يحثُّ على العمل التطوّعي
لقد حثَّ ديننا الإسلامي الحنيف على المشاركة في العمل التطوّعي وأبوابه المتعدّدة من بذل المال والجهد وقضاء حوائج الناس وتفريج كُرباتهم وَمَدّ يد العون والمساعدة لهم، وقد أمر الله سبحانه تعالى بفعل هذا العمل الصالح وَرَبَطَ الفلاح به، كما جاء في كثير من آيات القرآن الكريم، منها:
* قوله سبحانه وتعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(2)
* قوله سبحانه وتعالى:{ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ }(3).
* قوله سبحانه وتعالى أيضاً: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}(4).
كما ورد في السُّنّة النبوية المُشرفة كثير من الأحاديث التي تحثّ على العمل التّطوّعي وفعل الخيرات، منها:
* قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:(أَيُّمَا مُؤْمِنٍ أَطْعَمَ مُؤْمِنًا عَلَى جُوعٍ أَطْعَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ، وَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ سَقَى مُؤْمِنًا عَلَى ظَمَـأ سَقَاهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ الرَّحِيقِ الْمَخْتُومِ، وَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ كَسَا مُؤْمِنًا عَلَى عُرْيٍ كَسَاهُ اللَّهُ مِنْ خُضْرِ الْجَنَّةِ )(5).
* قوله-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أيضاً:( مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ) (6).
من ثمرات العمل التطوّعي والخيري
إِنَّ العمل التّطوّعي والخيري نعمة عظيمة تجعل المرء يشعر بسعادة لن يعرفها إلا إذا شارك في أيّ عمل تطوّعي سواء بالمال أو القول أو الفعل أو حتى الدعاء، ومن المعلوم أَنّ ديننا الإسلامي الحنيف جعل العمل التطوّعي والخيري من أحبّ الأعمال إلى الله سبحانه وتعالى؛ وذلك لأنّه يُسهم في إدخال السرور على الناس بمساعدتهم وَسَدِّ حاجاتهم وتخفيف مُعَاناتهم، وأحبّ الناس إلى الله سبحانه وتعالى هو أنفعهم للناس ، حيث إنّه يُساعد الناس، فيقضي حوائجهم وَيُفرّج كُرُباتهم ويُغيث الملهوفين منهم ، فقضاء حوائج الناس وتنفيس الكُربات وفعل المعروف والخير أعمال كريمة ينبغي على المسلم أَنْ يحرص على القيام بها، كما جاء في الحديث عَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- ، أَنَّ رَجُلا جَاءَ إِلَى النَبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ ؟ وَأَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : (أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ ، وَأَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ ، أَوْ تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً ، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا، أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا، وَلأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخي فِي حَاجَةٍ ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ، يَعْنِي مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ شَهْرًا ، وَمَنْ كَفَّ غَضَبَهُ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ ، وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ ، مَلأَ اللَّهُ قَلْبَهُ رَجاءً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَمَنْ مَشَى مَعَ أَخِيهِ فِي حَاجَةٍ حَتَّى يَتَهَيَّأَ لهُ ، أَثْبَتَ اللَّهُ قَدَمَيْهِ يَوْمَ تَزُولُ الأَقْدَامُ) (7) .
وللعمل التّطوّعي والخيري آثار إيجابية على نفس المُتطوّع، فهو يهذّب نفسه ويقيها من الشّحّ، ويزرع فيها حبّ الناس ومساعدتهم؛ طمعاً في الأجر والثواب من الله سبحانه وتعالى.
صُـوَر مــن العمل التطوّعي والخيري
إِنَّ من أَجَلِّ نعم الله سبحانه وتعالى علينا أَنْ هَيَّأ لنا أبواباً كثيرة من الخير والبرّ والإحسان، وجعل لمن يقوم بها الأجر والثواب العظيم، فأبواب العمل التّطوّعي والخيري كثيرة، منها: إصلاح ذات البين ،وكفالة اليتيم، وزيارة المريض، وإماطة الأذى عن الطريق ، ومساعدة المحتاج، وإغاثة الملهوف، فقد ورد أنّ رجلاً جاء إلى الحسن بن سهل كي يُساعده ويشفع له في حاجة، فَيَسَّر الله الأمر للحسن فقضاها والحمد لله، فجاءه الرجل يُقدّم له الشكر على صنيعه، فقال له الحسن: علام تشكرنا؟ نحن نرى أنّ للجاه زكاة كما أنّ للمال زكاة، ثم أنشد قائلاً :
فُرِضتْ عليَّ زكاةُ ما ملكتْ يَدَيَّ وزكاةُ جَاهِي أن أُعينَ وأَشْفعَا
فإذا ملكتَ فَجُدْ فإنْ لم تستطعْ فاجْـهَدْ بوِسْعِكَ كلِّه أن يَنْفعَا
هذا هو المجتمع الإسلامي، مجتمع يقوم على التعاون والتراحم والتكافل والتعاضد والعمل التّطوّعي والخيري والجماعي، نسأل الله سبحانه وتعالى أنْ يجعلنا من المُكثرين لفعل الخيرات، المُنفّذين لتعاليم كتاب ربّنا عزَّ وجلَّ وسُنّة نبينا محمد – صلّى الله عليه وسلّم- .
نماذج عملية من حياة رسولنا – صلّى الله عليه وسلّم – في العمل التطوّعي
لقد ضرب رسولنا محمد– صلّى الله عليه وسلّم – أروع الأمثلة في العمل التّطوّعي والجماعي، عند الهجرة ، وعند بناء المسجد النبوي بالمدينة، وعند حفر الخندق، وفي غير ذلك من الأحداث التي يطول الحديث عنها، فقد أخرج الإمام البخاري في صحيحه في كتاب المغازي عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ يُحَدِّثُ قَالَ:) لَمَّا كَانَ يَوْمُ الأَحْزَابِ وَخَنْدَقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ، رَأَيْتُهُ يَنْقُلُ مِنْ تُرَابِ الْخَنْدَقِ حَتَّى وَارَى عَنِّي التُرَابُ جِلْدَةَ بَطْنِهِ -وَكَانَ كَثِيرَ الشَّعَرِ- فَسَمِعْتُهُ يَرْتَجِزُ بِكَلِمَاتِ ابْنِ رَوَاحَةَ وَهُوَ يَنْقُلُ مِن التُّرَابِ، يَقُولُ :
اللَّهُمَّ لَوْلا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا وَلا تَصَدَّقْنَــــــا وَلا صَلَّيْنَــــــــا
فَأَنْزِلَــنْ سَكِينَـــةً عَلَيْنَـــا وَثَبِّتِ الأَقْــــدَامَ إِنْ لاقَيْنَـــا
إِنَّ الأُلَى قَدْ بَغَـــــوْا عَلَيْنَــــا وَإِنْ أَرَادُوا فِتْنَــــــةً أَبَيْنَـــــــا
قَالَ ثُمَّ يَمُدُّ صَوْتَهُ بِآخِرِهَا ) ( 8 ).
هكذا يُعَمِّق رسولنا – صلّى الله عليه وسلّم – معنى العمل التّطوّعي و التعاون بين أصحابه ، وَيُرَبّي فيهم روح الجماعة والعمل بروح الفريق، ويضعها موضع التطبيق العملي، ممّا كان له أثر كبير في رفع الروح المعنوية وإنجاز العمل، وهذا تعليم وتربية للأمة الإسلامية على ضرورة التعاون والتآلف فيما بينهم.
فما أحوجنا نحن المسلمين اليوم إلى التَّأَسّي برسولنا – صلّى الله عليه وسلّم – في المشاركة بالعمل التّطوعي والجماعي بروح الفريق الواحد، بدلاً من الفردية والأنانية؛ لأنّ التعاون على الخير هو سبيل هذه الأمة منذ أشرقت شمس الإسلام، فالمسلم للمسلم كالبنيان يشدّ بعضه بعضا، وإِنّ سِرّ قوتنا في وحدتنا وتعاوننا، وإِنّ ضعفنا في فرقتنا وتخاذلنا.
وصلّى الله على سيّدنا مُحمّد وعلى آله وصحبه أجمعين
الهوامش :
1-سورة المائدة الآية (2)
2-سورة الحـج الآية(77)
3-سورة الأنبياء الآية(73)
4-سورة البقرة الآية (110)
5- أخرجه الترمذي
6- أخرجه مسلم
7-أخرجه الطبراني في المعجم الكبير
8- أخرجه البخاري