الحمد لله ربّ العالمين والصَّلاة والسَّلام على رسوله الأمين محمد – صلّى الله عليه وسلّم -، وعلى آله وأصحابه الطَّيبين الطَّاهرين، ومن اقتفى أثرهم وسار على دربهم إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم : {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}(1).
تمرّ بنا في هذه الأيام ذكرى اليوم العالمي للغة العربية ، هذه الذكرى التي تأتي في الثامن عشر من شهر ديسمبر في كلّ عام ، وهو اليوم الذي صدر فيه قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1973م باعتماد اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية ولغات العمل في الأمم المتحدة، وقد جاء في هذا القرار أنّ اللغة العربية لعبت دوراً مُهماً في الحفاظ على حضارة الإنسان وتراثه الثقافي والعمل على نشرهما.
إِنَّ للغة العربية مكانة سامية ومنزلة رفيعة في نفوس أبنائها المُحِبّين لها ، والغيورين عليها والعارفين قدرها ومكانتها لكونها لغة القرآن الكريم: {نَزَلَ بهِ الرُّوحُ الأَمِينُ* عَلَى قَلْبكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ* بلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} (2) ، فاللغة العربية مُرتبطة بالدين ارتباط الروح بالجسد، وإذا فقدت الأمة لغتها فقدت دينها وتاريخها، ويكفي اللغة العربية فخراً وشرفاً أَنَّ الله سبحانه وتعالى قد اختارها لتكون لغة كتابه الكريم: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}، وجعلها لسان أفضل خلقه – صلّى الله عليه وسلّم - ، فكلّ المسلمين من كلّ اللغات مأمورون بتعلّم اللغة العربية، وذلك لفهم كلام الله سبحانه وتعالى وكلام رسوله – صلّى الله عليه وسلّم –، ولتأدية العبادات بها على الوجه المطلوب.
العربية ... لغة القرآن الكريم
لقد منَّ الله على البشرية ببعثة سيدنا محمد- صلّى الله عليه وسلّم– ، حيث أنزل عليه أفضل كُتبه، ليكون دستوراً للأمة وهداية للخلق ونوراً يُستضاء به ومعجزة للرسول – صلّى الله عليه وسلّم -، والقرآن الكريم كتاب ختم الله به الكُتب السّماوية، وأنزله على نبيّ ختم به الأنبياء، برسالة عامة خالدة ختم بها الرّسالات، ومن المعلوم أَنَّ القرآن الكريم هو كلام الله المُعجز، وكتابه الخالد ، مادة الإسلام وأساس الحياة والنظام ، فهو دستور الخالق لإصلاح الخلق، وقانون السماء لهداية الأرض، أحكم الله فيه كلّ تشريع ، وأودعه كلّ سعادة ، وَنَاطَ به كلَّ تقدّم وفلاح، فلم يكن هذا الكتاب الإلهي "المُعجز " إلا تذكرة للنفوس الحائرة، وإنقاذاً للقلوب الجامدة البائسة التي لا تفهم إلا لذائذ الحياة وشهواتها الدّنيئة، وإخراجاً للناس من الظّلمات إلى النّور ، به يتّصل العبد الضعيف بإلهه وخالقه، وبه يستنزل رحمته ، وبه يهتدي لأقوم سبيل وأحسن طريق: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً )(3).
لقد شرَّف الله سبحانه وتعالى اللغة العربية بأنْ أنزل بها أعظم كُتبه، فَخَلَّدَ ذكرها وَعَمَّ أثرها، حتى ذهب الإمام الشافعي – رحمه الله - إلى أنّ تعلّم اللغة العربية أو معرفتها فرض على كلّ مسلم، كي يستطيع أن يُؤدي فرائض دينه وخصوصًا الصلاة اليومية، ومن الجدير بالذّكر أنّ اللغة العربية كانت تسير مع الدين جنبًا إلى جنب وهذا سِرُّ تعريب بلاد كثيرة، كما أنها وسعت علوم الحضارة الإسلامية وفنونها في زمن ازدهارها ولم تضق بعلم ولا مَتْنٍ.
عالمية اللغة العربية
من المعلوم أنّ اللغة العربية هي لغة عالمية ، فهي اللغة الوحيدة للوحي الإلهي الباقي على ظهر الأرض! وقد استمدت عالميتها من عالمية الدّعوة الإسلامية ، حيث إِنّ الله سبحانه وتعالى أرسل رسولنا - صلّى الله عليه وسلّم- للناس جميعاً، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا}(4)، وَتَعَلُّم اللغة العربية وتعميمها فرضُ عَيْنٍ على المُدَرّسين العرب والمسلمين وعلى المجامع والمعاهد اللغوية التي خُصِّصَت لذلك ؛ لأنّ القرآن لا يُسَمَّى قرآناً إلا بها ، والصلاة لا تكون صلاة إلا بها؛ لذلك سارع المسلمون عبر تاريخهم إلى تَعَلُّمِهَا والتكلُّم بها والتأليف فيها والدِّفاع عنها، حتى حَلَّت مَحَلَّ الفارسية في العراق، والرّومية في الشّام، والقبطية في مصر ، وأصبحت في عصر بني العباس – وهو عصرها الذّهبي – لغة الدين والأدب والعلم والسياسة والإدارة والحضارة.
اللغة العربية .. أساس الوحدة ومستودع الحضارة
إِنَّ اللغة العربية هي الوعاء الذي حَوَى الثّقافة والحضارة العربية والتاريخ عبر القرون، وعن طريقها اتصلت الأجيال العربية ببعضها في عُصور طويلة، وهي التي حملت رسالة الإسلام وما انبثق عنها من حضارات وثقافات، وبها ارتبط العرب قديماً ، وبها يتوحَّدون اليوم ويُشَكِّلون في هذا العالم رقعة من الأرض تتحدّث بلسانٍ واحد، وتصوغ أفكارها ومضامينها في لُغة واحدة رغم بُعْد المسافات وتعدّد البلدان، واللغة العربية هي أداة الاتّصال ونُقطة الالتقاء بين العرب وشعوب كثيرة في هذه الأرض أخذت عن العرب جُزءاً كبيراً من حضارتهم و ثقافتهم، فقد استطاعت أن تكون لغة حضارة إنسانية واسعة اشتركت فيها أُمَمٌ شتّى كان العرب نُواتها الأساسية وقادتها، حيث اعتبروها جميعاً لغةً تحمل حضارتهم وثقافتهم، فاستطاعت أن تكون لُغة العلم والسّياسة والفكر والثقافة والتجارة والتشريع والفلسفة والمنطق والتّصوف والأدب والفن.
ومن الجدير بالذكر أَنَّ للّغة العربية خُصوصية تتمتّع بها دون سائر اللغات الأخرى تستمدّها من كونها لغة القرآن الكريم، فالتاريخ لم يشهد لغة ذاع صيتها، وكثر الناطقون بها، وسادت أُمّتها، بمثل ما شهدته اللغة العربية لغة القرآن الكريم الذي نزل ليكون هداية للعالمين، ورسم للإنسانية سبيل سعادتها، وأخذ بيدها إلى مَدَارج الرُّقي، وهذا الارتباط بين اللغة والعقيدة والهوية سِمَة تفرّدت بها اللغة العربية، مِمَّا جعلها مَحَلّ استهداف من الأعداء الذين يرمون إلى تقويض مكانتها في النفوس بإعمال مَعَاولهم في هدمها لكونها سِيَاج هوية الأمة، فاللغة أساس وحدة الأمة، ومُستودع حضارتها، ومرآة فكرها .
ضرورة المحافظة على لغتنا العربية
من الواجب علينا جمعياً ضرورة المُحافظة على المكانة اللائقة لِلُغة الضّاد في الاضطلاع بأدوارها الحيوية في المجتمع ، وحتّى تضطّلع اللغة العربية الفصحى بدورها هذا ، لابُدَّ أن تكون لغة التعليم الأساسية في جميع مراحله ولغة العلوم الحديثة ، وكذلك لُغة الخطاب السياسي والرّسمي للدولة ، كما يجب أن نَنأى بأنفسنا عن استخدام بعض المُصطلحات الأجنبية التي تبوّأت مكان اللغة العربية، كما قال حافظ إبراهيم :
وَسِعتُ كِتابَ اللهِ لَفظاً وغايةً وما ضِقْتُ عن آيٍ به وعِظاتِ
فكيف أضِيقُ اليومَ عن وَصفِ آلةٍ وتَنْسِيقِ أسماءٍ لمُخْترَعاتِ
أتَوْا أهلَهُم بالمُعجِزاتِ تَفَنُّنًا فَيَا لَيْتَكُمْ تأتونَ بالكلِمَاتِ
أَيهجُرنِي قومِي-عفا الله عنهمُ إلى لغة ٍ لمْ تتّصلْ بِرواةِ
فالعربية تقبل كلّ جديد من المُصطلحات وهذا يجعلها لُغة للعلم والحضارة، وليست كما يظنّ البعض أنها تصطدم مع التطور التقني والتّقدّم التكنولوجي وتتعارض معه.
لذلك فإِنَّ الواجب علينا أَن نتكلّم اللغة العربية الفُصحى لأنها لغة القرآن الكريم، وأن نعمل جاهدين على تعليمها لأبناء الأمة، لأنّ الكثيرين يُعَلِّمون أبناءهم اللغات الأجنبية، بينما لم يُحسنوا اللغة العربية حتى أصبحنا نسمع شعار ( النحو غُول اللغة )، لذلك يجب علينا نشر اللغة العربية في جميع أرجاء المعمورة تحقيقًا لعالمية الرسالة الإسلامية ، ولأنها لغة القرآن الكريم ، كما يجب علينا أَن نعمل على عدم مُزاحمة اللّهجة العامية للغة الفُصحى، لأنّ الدعوة إلى العامية مُعاداة للقرآن، وسلخ للأمة عن دينها، وقطيعة معرفية مع تراثها وتاريخها وهويتها الحضارية، وجزى الله القائل خير الجزاء:
للهِ درُّ لسانِ الضادِ منزلةً فيها الهُدَى والنَّدَى والعلمُ مَاكَانَا
وفي الختام أقول: رحم الله أبا منصور الثّعالبي، عالم اللغة في القرن الرابع الهجري عندما قال:
- مَنْ أحبّ الله أحبّ رسوله محمداً - صلّى الله عليه وسلّم-.
- ومَنْ أحبّ الرسول العربيّ أحبّ العرب.
- ومَنْ أحبّ العرب أحبّ العربية التي بها نزل أفضل الكُتب.
- ومَنْ أحبّ العربية عُني بها، وثابر عليها، وصرف هِمّته إليها.
فنحن نُشهدك يا ربّ : أنّنا نُحبّك ، ونحبّ نبيّك، ونُحبّ لُغتنا العربية، لغة القرآن الكريم.
وصلّى الله على سيّدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
الهوامش:
1- سورة يوسف ، الآية(2)
2- سورة الشعراء، الآية (193-195)
3- سورة الإسراء، الآية( 9 )
4- سورة سبأ ،الآية(28)