الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين محمد – صلّى الله عليه وسلّم -، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، ومن اقتفى أثرهم وسار على دربهم إلى يوم الدين، أما بعد:
أخرج الإمام البخاري في صحيحه عَن ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الْكَرْبِ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ ، وَرَبُّ الأَرْضِ ، وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) (1) .
هذا الحديث حديث صحيح أخرجه الإمام البخاري في صحيحه، في كتاب الدعوات، باب الدعاء عند الكرب.
إنّنا في هذه الأيام أحوج ما نكون إلى التّوجه لله سبحانه وتعالى بالدّعاء خاشعين مُتَذَلِّلين، أن يكشف عنّا وعن شعبنا البلاء، فالدُّعاء مَلاَذُ كلّ مكروب وأملُ كلّ خائف وراحةُ كلّ مُضطرب، وهو من أعظم العبادات التي ينبغي للمسلم أن يعتصم بها خاصةً في أيام المِحَنِ والشّدائد، وَحَقٌّ علينا جميعًا أن ندعوَهُ سبحانه وتعالى في الشّدةِ والرَّخاءِ والسَّراءِ والضَّراءِ ، ونفزعُ إليه في المُلِمَّاتِ ونتوسّلُ إليه في الكُرباتِ، حينها يأتي مَدَدُهْ ويصِلُ عوْنُه ، ويُسْرعُ فرجُهُ ﴿أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ﴾(2).
ومن المعلوم أنّ الحياة الدنيا دارُ ابتلاء واختبار ، فَمَن سَرَّه زمنٌ ساءته أزمان، فالإنسان مُعَرَّضٌ للشّدائد حيناً، والفرح والسّرور حيناً آخر، وتلك هي سُنّة الحياة، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}(3).
فضل الدعاء واللجوء إلى الله
لقد ساق لنا القرآن الكريم نماذج متعددة لعددٍ من الأنبياء –عليهم الصلاة والسلام-، والأخيار من الناس، الذين تَضَرَّعوا إلى خالقهم بالدّعاء، فاستجاب الله سبحانه وتعالى لهم، وفَرَّج كُرُوبَهُم، ونضرب هنا بعض الأمثلة على ذلك:
* إذا كنتَ في خوفٍ فقل:{حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}(4 )، فالله سبحانه وتعالى يقول عَمَّن قالوا ذلك{فَانقَلَبُواْ بنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} (5) .
* وإنْ كان مرضك في جسمك فقل ما قال نبيّ الله أيوب- عليه الصلاة والسلام-:{أَنّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (6)، فالله سبحانه وتعالى يُجيب عَمَّن قال ذلك : {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بهِ مِن ضُرٍّ } (7).
* وإذا كان الأعداء يمكرون لك لِيُؤذوك وَيُدَبِّروا لك المكائد، فقل ما قاله مؤمن من آل فرعون: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بالْعِبَادِ} (8)، قُلْها وأنتَ واثقٌ من نتائجها وفوائدها المَرْجوّة ، وستأتي لك النتيجة إن شاء الله تعالى كما عَقَّب ربنا سبحانه وتعالى على مَنْ قال ذلك :{فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} (9) .
* وإنْ كنتَ تُعاني من هَمٍّ أو غَمٍّ أو حزنٍ فقل مَا قال نبيّ الله يونس- عليه الصلاة والسلام -عندما أُلقي في البحر والتقمه الحوت، وأصبح في بطن الحوت، وفي الظُّلْمة الشديدة، نادى ربّه:{فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} (10)، فإنّ الله سبحانه وتعالى عَقَّبَ على مَنْ دعا بذلك قائلاً : {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ} (11).
جاء في مختصر تفسير ابن كثير للصابوني: (وقوله : "فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ " أخرجناه من بطن الحوت وتلك الظلمات " وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ" أي إذا كانوا في الشّدائد ودعونا مُنيبين إلينا، قال – صلّى الله عليه وسلّم - : "دعوة ذي النون إذ هو في بطن الحوت:" لا إِلَهَ إِلا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ " ، فإنه لم يدعُ بها مسلم ربه في شيء إلا استجاب له" )(12).
دعوات تفريج الهمّ وفك الكرب
من الجدير بالذكر أنّ كُتب السُّنة النبوية الشريفة قد اشتملت على أحاديث كثيرة تُسهم في تفريج الهمّ والغمّ والكرب والحزن، منها :
* عن أَنَسِ بْن مَالِكٍ -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم - " اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ ، وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ ، وَالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ ، وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ " (13)
*وعن أَبِى بَكْرَةَ -رضي الله عنه-أنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- قال: "دَعَوَاتُ الْمَكْرُوبِ: اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو؛ فَلاَ تَكِلْنِى إِلَى نَفْسِى طَرْفَةَ عَيْنٍ وَأَصْلِحْ لِى شَأْنِى كُلَّهُ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ "(14).
* وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما-أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلّى الله عليه وسلّم-كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الْكَرْبِ:
" لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ ، وَرَبُّ الأَرْضِ ، وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ "(15).
لذلك يجب علينا أن تكون ثقتنا بالله سبحانه وتعالى عظيمة، فهو على كلّ شيء قدير.
أذهَبَ الله هَمَّك
من المعلوم أنّ رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – كان يُرشد أصحابه إلى كلّ خير، كما كان يُعلّمهم ضرورة الاستعانة بالله سبحانه وتعالى في جميع الأمور، كما جاء في الحديث: (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخدريِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ : دَخَلَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَاتَ يَومٍ المَسْجِدَ، فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ أَبُو أُمَامَةَ جَالِساً فِيهِ، فَقَالَ: يَا أَبَا أُمَامَةَ مَاليِ أَرَاكَ جَالِساً في المَسْجِدِ في غَيْرِ وَقْتِ صَلاةٍ ؟ قَالَ : هُمُومٌ لَزِمَتْني وَدُيُونٌ يَا رَسُولَ اللهِ ، قَالَ : أَفَلا أُعَلِّمُكَ كَلاماً إِذَا قُلْتَهُ أَذْهَب اللهُ عَزَّ وَجَلَّ هَمَّكَ ، وَقَضَى عَنْكَ دَيْنَكَ ، فَقَالَ: بَلى يَا رَسُولَ اللهِ ، قَالَ: قُلْ إِذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا أَمْسَيْتَ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْبُخْلِ وَالْجُبْنِ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَقَهْرِ الرِّجَالِ )(16) قَالَ: فَعَلْتُ ذَلِكَ، فَأَذْهَبَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ هَمِّي وَقَضَى عَنِّي دَيْني.
وعند قراءتنا لهذه الكلمات النّبوية التي علّمها رسولنا –صلّى الله عليه وسلّم- لأبي أُمامة –رضي الله عنه-، نجد أنها درسًٌ عملي لنا جميعاً بضرورة العمل بها، وأن نكون على يقين بأنّ الله عزّ وجلّ لا
يُخَيّب مَنْ قصده، ما دام الإنسان صادقاً مخلصاً طائعاً لربه سبحانه وتعالى، ورحم الله القائل:
يا صاحبَ الهَمِّ إنََّ الهَمَّ مُنفـرِجٌ أَبْشِـــــرْ بخيـــرٍ فـــإنََّ الفارجَ اللهُ
إذا بُليتَ فثِقْ باللهِ وارضَ بـــهِ إنَّ الذي يكشفُ البلْوى هوَ اللهُ
اليأسُ يقطعُ أحيانــاً بصاحِبــــهِ لا تَيْأَسـَــــــنَّ فــإنَّ الفـــــارجَ اللهُ
اللهُ يُحْدِثُ بعْدَ العُسْرِ مَيْســــرةً لا تَجْزَعـَــنَّ فـــإنَّ الكافــــــيَ اللهُ
واللهِ مَا لَكَ غيرُ اللهِ من أحــــدٍ فحَسْبُــكَ اللهُ في كُـلٍّ لـــكَ اللهُ
مِنْ هَدْيِ الرسول – صلّى الله عليه وسلّم – عند الشدائد
عند دراستنا لسيرة رسولنا – صلّى الله عليه وسلّم – نجد أنها مليئة بالمواقف الإيمانية التي تُرشدنا إلى وجوب الدّعاء بالعافية ورفع البلاء وتغيير الحال وكشف الغُمّة، كما جاء في الحديث عن سلمان – رضي الله عنه– قال : قال رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم - : (لا يَرُدُّ القضاءَ إلاَّ الدُّعاءُ، ولا يَزِيدُ في العُمْرِ إلا البِرُّ) (17).
وروي عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – قَالَ: ( قُلْنَا يَوْمَ الْخَنْدَقِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ مِنْ شَيْءٍ نَقُولُهُ، فَقَدْ بَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ؟ قَالَ: نَعَمْ، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِنَا وَآمِنْ رَوْعَاتِنَا)(18) قَالَ: فَضَرَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وُجُوهَ أَعْدَائِهِ بِالرِّيحِ فَهَزَمَهُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِالرِّيحِ.
فأرسل الله تبارك وتعالى الرّياح العاتية على كفار قريش وغطفان، فقلبت قُدورهم، وهدمت خيامهم، وأبعدتهم عن تلك الأرض المباركة، وهذا نصرٌ من الله تبارك وتعالى لأهل الإيمان، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا* هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا)(19)
أخي القارئ: كَمْ نحنُ بحاجةٍ إلى اللجوء إلى الله عزَّ وجلَّ والاعتماد عليه في أوقات الأزمات والشّدائد، وفي كلّ ما يَعْرِضُ لنا من ظُلمٍ وعدوانٍ، أو فقرٍ وحرمانٍ ، أو فقدٍ لفلذات الأكباد وَسَندِ السّواعد من الأبناء والأهل، أو غير ذلك مِمَّا لا يملكُ كشفهُ وإزالتهُ إلا الله الواحد القهار.
الهوامش :
2-سورة النمل الآية (62)
3- سورة الأنبياء الآية(35)
4- سورة آل عمران الآية(173)
5- سورة آل عمران الآية (174)
6-سورة الأنبياء الآية(83)
7- سورة الأنبياء الآية (84)
8- سورة غافر الآية (44)
9- سورة غافر الآية (45)
10- سورة الأنبياء الآية(87)
11- سورة الأنبياء الآية (88)
12- مختصر تفسير ابن كثير للصابوني 2 /519
13- أخرجه البخاري
14- أخرجه أبو داود
15- أخرجه البخاري
16- أخرجه ابو داود
17- أخرجه الترمذي
18- أخرجه أحمد
19- سورة الأحزاب الآية (9-11)