الحمد لله ربّ العالمين والصَّلاة والسَّلام على رسوله الأمين محمد – صلّى الله عليه وسلّم -، وعلى آله وأصحابه الطَّيبين الطَّاهرين، ومن اقتفى أثرهم وسارَ على دربهم إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
أخرج الإمام الترمذي في سُننه عن ابن مَسْعُودٍ – رضي الله عنه- ، عن النبيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – قال : (لاَ تَزُولُ قَدَمَا ابن آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ من عِنْد رَبِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْس؛ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ، وعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلاهُ، وَمَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسبهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَمَاذَا عَمِلَ فِيما عَلِمَ)( 1).
هذا الحديث أخرجه الإمام الترمذي في سُننه، في كتاب صفة القيامة والرّقائق والورع عن رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم -، باب في القيامة.
نُوَدّع في هذه الأيام عامًا ميلاديًّا، ونستقبل عاماً جديداً ، وهكذا تمرّ الأيام والشهور، فعلينا أَنْ نأخذ العبرة من مُرور الأيام والشهور والأعوام، وجديرٌ بنا ونحن نستقبل عاماً جديداً، ونُوَدِّع عاماً قد انقضى بخيره وشرّه، أَنْ ندعو الله عزَّ وجلَّ أَنْ يجعل هذا العام خيراً من سَلَفِه، وأن يجعل خَلَفَه خيراً منه، فَمَا مِنْ يوم يبزغ فجره ويسطع ضوؤه إلا ويناديك يا ابن آدم، أنا يومٌ جديد وعلى عملك شهيد، فاغتنم مِنّي بعمل الصالحات فإِنّي لا أعود إلى يوم القيامة، وما مِنْ ليلٍ يُرخى سُدُولَه وينشر سُكُونه إلا ويناديك يا ابن آدم، أنا ليلٌ جديد وعلى عملك شهيد، فتزوّد مِنّي بطاعة الرّحمن وطلب المغفرة والرّضوان فإنّي لا أعود إلى يوم القيامة.
عام جديد... جَدِّدوا التوبة
مَا أحوجنا في مُسْتهلِّ كلّ عام حين تطوي عجلة الزَّمن عاماً كاملاً من حياتنا- تقتطعه من أعمارنا وَتُقرِّب به آجالنا- أَنْ نقف قليلاً على مُفترق الطُّرق! لِنُحَاسِبَ أنفسنا على الماضي، ولنستعرض ما قدّمناه، فنستدرك ما فات، ونتوب من العثرات، ونحمد الله عزَّ وجلَّ على ما وفّقنا إليه من صالح الأعمال، فالفضل كُلّه لله سبحانه وتعالى وحده أَنْ هدانا إلى الطّريق القويم والصّراط المُستقيم،{الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ}(2)، ثمّ نعقد العزم وَنُوَطِّن النّفس على أَنْ نستقبل العام الجديد بقلوب مُؤمنة ونِيَّات صادقة، ورغبة أكيدة في فعل الخير واتّباع الحقّ، وطاعة الله عزَّ وجلَّ وتقواه.
فالواجب علينا أَنْ يُراجع كلّ واحد منَّا أعماله خلال العام الماضي، فإِنْ وجد خيراً فليحمد الله عزَّ وجلَّ، وإِنْ وجدَ غير ذلك فعليه أَنْ يتوبَ إلى الله عزَّ وجلَّ توبة نصوحاً، فالله سبحانه وتعالى يفتح باب التوبة على مِصْراعيه لكلّ إنسان كي يعود إلى محراب الطّاعة .
ومن فضل الله سبحانه وتعالى على أُمّتنا الإسلامية أنّه غفور رحيم، وأَنَّ رحمته سبقت غضبه كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ*وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ} (3)، ومن المعلوم أَنَّ رسولنا – صلّى الله عليه وسلّم– كان يغتنم كلّ مناسبة لتبشير الناس بعفو الله سبحانه وتعالى ورحمته، وإظهار فضله وكرمه عزَّ وجلَّ.
حَاسِبوا أنفسكم... قبل أن تُحَاسَبُوا
إنّنا في هذه الوقفة ونحن نُودّع عاماً ونستقبل عاماً جديداً، يجب أَنْ نتدارك ما فاتنا، وأَنْ يُحَاسِبَ الواحدُ فينا نفسه قبل أَنْ يُحَاسَب، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا* اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}(4)، وقوله سبحانه وتعالى أيضاً: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} (5)، حيث إِنّنا سَنُسْأل يوم القيامة عن كلّ شيء، لقول رسولنا – صلّى الله عليه وسلّم -: (لاَ تَزُولُ قَدَمَا ابن آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ من عِنْد رَبِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْس؛ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ، وعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلاهُ، وَمَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسبهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَمَاذَا عَمِلَ فِيما عَلِمَ)؛ لذا ينبغي علينا اغتنام الفُرصة التي بين أيدينا؛ لقول رسولنا الكريم – صلّى الله عليه وسلّم-: (اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: حَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَشَبَابَكَ قَبْلَ هرمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ)(6).
اغتنام الأوقات بالطّاعات
إِنَّ الدنيا مزرعة الآخرة، ونحن لم نُخلق إلا للعمل الصالح والعبادة الحَقّة، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ}(7)؛ لذلك رأينا رسولنا– صلّى الله عليه وسلّم- قد اغتنم كلّ لحظة من حياته في طاعة الله سبحانه وتعالى، وعلَّم أصحابه الكرام – رضي الله عنهم أجمعين -ذلك، فما مضى قرنٌ من الزمان حتى رأينا دُوَلاً عديدة ومساحات شاسعة من قارّات العالم قدْ سطع فيها نور الإسلام، ودخل أهلها في دين الله أفواجا بفضل الله عزَّ وجلَّ أولاً، ثم بجهدهم وعملهم وإخلاصهم.
ومن الجدير بالذكر أنَّ عُمر الإنسان قصير، وأنَّ حياته أثمن مِنْ أَنْ تضيع فيما لا ينفع، وأنَّ الواجبات أكثر من الأوقات، فأعمار الأُمّة الإسلامية ما بين السّتين والسّبعين والقليل من يتجاوز، كما جاء في الحديث الشريف عن أبي هريرة – رضي الله عنه- قال : قال رسول الله –صلّى الله عليه وسلّم- : (أَعْمَارُ أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى السَّبْعِينَ وَأَقَلُّهُمْ مَنْ يَجُوزُ ذَلِكَ )(8)، فعلينا أَنْ نعمرَ أوقات حياتنا بالباقيات الصالحات من الأقوال والأفعال، فَتَعَاقُبُ الزّمن يفرض علينا الحرص على الوقت، وأَنْ يأخذ الإنسان من دُنياه لآخرته، ومن حياته قبل موته، فظروف المستقبل ليست مِلْكاً لأحدٍ، وأمرها إلى الله سبحانه وتعالى.
وعند دراستنا لتاريخ أجدادنا نجد أَنّهم اغتنموا أعمارهم في الخير، فكانوا العلماء النّابغين الأفذاذ الذين طَأْطَأَ لهم الشرق والغرب إجلالاً واحتراماً في شَتّى المجالات، فكان منهم الفارابي، والرّازي، وابن سينا، وابن الهيثم، والخوارزمي، والكندي، وغيرهم كثير.
إنَّ الفرد مُطَالب باغتنام الوقت في طاعة الله عزَّ وجلَّ، فالصلوات المفروضة مُوزّعة على خمسة أوقات، والصّوم والحجّ والزّكاة مُقسّمة على أشهر السنة، ونحن مسؤولون عن أعمارنا، فلنحرصْ على اغتنامها وعدم تضييعها سُدًى.
لذلك فإنّنا مطالبون أفراداً وجماعاتٍ ومُؤَسّساتٍ وَدُوَلاً أَنْ نتّقي الله سبحانه وتعالى في أعمارنا، {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَآء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ}(9)، كما يجب علينا أَنْ نُعلن الصُّلح مع الله عزَّ وجلَّ، وأَنْ نُكثر من أفعال الخير، وَنَنْأَى بأنفسنا وأهلينا ومُجتمعنا عن طريق الشَّرِّ، عسى أَنْ تُدْركنا رحمة الله سبحانه وتعالى، {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بأَنْفُسِهِمْ }(10).
فلسطين بين عامين
أقبل العام الجديد وما زالت الهجمة الشّرسة التي يتعرَّض لها أبناء شعبنا الفلسطيني وبلادنا المُباركة تشتدّ يوماً بعد يوم، فبلادنا المُباركة فلسطين ما زالت تعيش انتهاكات صارخة جَرَّاء الاعتداءات الإسرائيلية على مُحافظات الوطن كافّة، وما نتج عن ذلك مِنْ قتلٍ وتشريدٍ وتنكيلٍ، ومن هذه الاعتداءات الإجرامية: استهداف سلطات الاحتلال الإسرائيلي لجميع أبناء شعبنا الفلسطيني – شيوخه ورجاله ونسائه وأطفاله-، والظُّلم والتَّنكيل الذي يتعرَّض له أسرانا البواسل، وكذلك الإهمال الطبي المُتَعَمَّد للمرضى منهم مِمَّا أدّى لاستشهاد عددٍ منهم، كان آخرهم الشهيد الأسير البطل/ ناصر أبو حميد –رحمه الله- الذي استُشْهد صباح يوم الثلاثاء 20/12/2022م، وما زال جثمانه مُحتجزاً لدى سلطات الاحتلال الإسرائيلي.
كما أنَّ بلادنا المباركة بصفة عامة ومدينة القدس بصفة خاصة ما زالت تتعرَّض لمجزرة بشعة من قبل سلطات الاحتلال الإسرائيلي تستهدف الإنسان والمُقدّسات والتّاريخ والحضارة في ظِلّ تعتيمٍ إعلاميٍّ كبير، وما يحدث في حيّ الشيخ جراح وحيّ البستان وفي سلوان والعيساوية وغيرها ليس عنّا ببعيد، حتى إنَّ الأموات والمقابر لم تسلمْ من هذه الجرائم البشعة، فالاعتداءات الإسرائيلية في المدينة المقدّسة كثيرة ومتعدّدة طالت كلّ شيء فيها من إغلاقٍ للمؤسّسات، وملاحقةٍ للشّخصيّات الدّينية والوطنيّة، ونهبٍ للأرض، وهدمٍ للبيوت، وتدميرٍ للمقابر، وإقامةٍ للقبور الوهمية، وفرضٍ للضّرائب، وسحبٍ للهويّات، بالإضافة إلى تزوير المناهج التّعليمية وتزييف التّاريخ، فكلّ مَعْلَمٍ عربي وإسلامي في القدس يتعرّض لخطر الإبادة والتّهويد، وما تقوم به سلطات الاحتلال الإسرائيلي في المسجد الأقصى المبارك بالقدس والمسجد الإبراهيمي بالخليل يُعَدُّ استباحة مُبرمجة تستهدف تفريغ المسجدين من المُصَلّين والمُرابطين وتجفيف الوجود الإسلاميّ فيهما، من خلال منع المُصَلّين والمُرابطين من الوصول إليهما، والعالَم للأسف يُغلق عينيه ويصمّ أُذنيه عمّا يجري في هذين المسجدين المُباركين من اعتداءات متواصلة بهدف فرض سلطات الاحتلال سيطرتها عليهما وتغيير واقعهما.
وفي الختام: ونحن نقف على أبواب عام جديد لنتضرَّع إلى الله سبحانه وتعالى أَنْ يحفظ شعبنا وأُمّتنا وأسرانا وأقصانا ومُقدّساتنا من كلّ سوء، وأَنْ يجمع شمل شعبنا الفلسطيني، وَيُوحِّد كلمته، وأَنْ يُؤلّف بين قلوب أبنائه، كما نسأله سبحانه وتعالى أَنْ يكون العام الجديد عام تحرير المُقدّسات، وعودة اللاجئين، وخروج جميع الأسرى والمُعتقلين، وإقامة دولتنا الفلسطينية المُستقلة وعاصمتها القدس الشريف بإذنه تعالى.
وصلّى الله على سيِّدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين
الهوامش :