2023-06-11

فصل الشتاء... فضائل وبركات


2023-01-20

الحمد لله ربّ العالمين والصَّلاة والسَّلام على رسوله الأمين محمد – صلّى الله عليه وسلّم -، وعلى آله وأصحابه الطَّيبين الطَّاهرين، ومن اقتفى أثرهم وسارَ على دربهم إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم : {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ}(1) .

لقد أنعم الله سبحانه وتعالى علينا وعلى البشرية جمعاء بِنِعَمٍ لا تُعَدُّ ولا تُحْصَى، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى:{وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا}(2)، ومن هذه النّعم نِعْمَة نزول الغيث، حيث أكرمنا الله سبحانه وتعالى بنزول الغيث، فكان غيثاً مُغيثاً، غَدَقًا طَبَقاً بفضل الله عزَّ وجلَّ، والجميع يحمدون الله عزَّ وجلَّ على نِعَمِهِ وفضله وكرمه.

إِنَّ الغيث المُبارك الذي يُنزّله الله سبحانه وتعالى من السماء رزقاً للعباد وحياةً للأرض وما عليها، مَا هُوَ إِلاّ آية من آيات الله سبحانه وتعالى، ومظهر من مظاهر رحمته بعباده، فقد أنزل الله عزَّ وجلَّ الماء الذي جعله سبب حياتنا، ومِمّا يدلّ على عِظَمِ نِعْمَة الماء وصفُ الله سبحانه وتعالى له بالبركة، وأحيانا بالطّهر، وأحيانا بأنّه سببٌ للحياة، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاءً مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ}(3)، وقوله سبحانه وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاءً طَهُورًا}(4 )، وقوله سبحانه وتعالى: {وَاللّهُ أَنزَلَ مِنَ الْسَّمَاء مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ}(5)، وقوله سبحانه وتعالى أيضا: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } (6).

الشتاءُ ربيعُ المؤمنِ

مِنْ أبواب الخير ونحن نَتفيَّأُ فضائل فصل الشتاء وبركاته طولُ الليل، كما جاء في قوله – صلّى الله عليه وسلّم – : (الشِّتاءُ رَبِيعُ المؤمنِ، طَالَ لَيلُه فقَامَهُ، وقَصُرَ نَهارُه فصَامَهُ)(7)، قال ابن رجب: (إِنّما كان الشتاءُ ربيعَ المؤمنِ؛ لأنّه يَرْتَعُ فيه في بساتينِ الطّاعاتِ، ويسرحُ في ميادينِ العباداتِ ، ويُنَزِّهُ قلبَه في رياضِ الأعمالِ المُيَسَّرةِ فيه)(8)، حيث يُمكن للإنسان أَنْ يأخذ نصيبه من النّوم والرّاحة، ثم يقوم قبل الفجر إلى صلاة القيام، فإِنّ صلاة الليل دأبُ عباد الله الصالحين المُستغفرين المُتقرّبين إلى الله عزَّ وجلَّ كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ}(9)، فهذا الوقت المُبارك ينزل فيه الله سبحانه وتعالى إلى السماء الدنيا.

أخي القارئ الكريم : إِنّ ليل الشتاء طويل فلا تُضَيِّعه في النّوم أو السَّهَر  فيما لا ينفع، واغتنم لَيْلَكَ في طاعة الله سبحانه وتعالى وذكره؛ لتكون من الفائزين في الدّنيا والآخرة.

إسباغ الوضوء على المكاره

 لقد حث َّديننا الإسلامي الحنيف على إسباغ الوضوء في شِدّة البرد، حيث إنَّ ذلك من أفضل الأعمال؛ لما رُوي عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلَّى الله عليه وسلّم - : (أَلا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ ،وَانْتِظَارُ الصَّلاةِ بَعْدَ الصَّلاةِ؛ فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ)(10).

جاء في كتاب فتح المُنعم شرح صحيح مسلم في شرح الحديث السابق : ( حقًّا حُفّت الجنة بالمكاره والنّار بالشهوات، وكلّما شقّت العبادة وتحمّلت النفس في سبيلها الصّعاب كلّما عظم الأجر، من هنا يجمع رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – ثلاثاً من الطاعات ، في كلٍّ منها مشقّة وجهاد، إسباغ الوضوء بالماء البارد في الشتاء، وكثرة المشي إلى المسجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، بهذه الثلاث يمحو الله الخطايا ويرفع الدرجات، وإذا كان هذا الأجر العظيم عن وسائل العبادات، فما بالنا بالأجر عن الغايات؟ لا رَيْبَ أنّه فضل كبير)(11).

الاستغفار ... ونزول الغيث

 إِنَّ مِنْ أعظم أسبابِ نزول الغيث كثرة الاستغفار، فقد أمرَ الله سبحانه وتعالى عباده بالاستغفار عند انحباس المطرِ عنهم، [قال الشعبيّ: خرج عمر يستسقي فلم يزدْ على الاستغفار حتى رجع، فأُمطروا فقالوا: ما رأيناك استسقيتَ؟ فقال: لقد طلبتُ المطر بمجاديح السماء التي يُستنزل بها المطر؛ ثم قرأ : {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا*يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا }.

وقال ابن صبيح: شكا رجل إلى الحسن الجدوبة، فقال له: استغفر الله، وشكا آخر إليه الفقر، فقال له: استغفر الله، وقال له آخر: ادعُ الله أَنْ يرزقني ولدًا، فقال له: استغفر الله، وشكا إليه آخر جفاف بستانه، فقال له: استغفر الله، فقلنا له في ذلك؟ فقال: ما قلتُ من عندي شيئا، إِنّ الله تعالى يقول في سورة "نوح": {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا*يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا*وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَّكُمْ أَنْهَارًا} ] (12).

الصّدقات من أسباب تنزّل الرّحمات

إِنّ مِنْ أسباب تنزّل رحمات الله سبحانه وتعالى على عباده إخراج الزّكاة والصّدقات، فالصّدقات ليست سبباً في قِلّة المال كما يظنّ البعض، فقد جاء في الحديث: (مَا نَقَصَ مَالٌ مِنْ صَدَقَة)(13)،وبيَّن رسولنا – صلّى الله عليه وسلّم -  فضل شكر الله عزَّ وجلَّ على نِعَمِه ، وأثر  الإنفاق  في البركة وفي تنزّل الرّحمات، كما جاء في قوله – صلّى الله عليه وسلّم- : (بَيْنَمَا رَجُلٌ بفَلاةٍ مِنَ الأَرْضِ فَسَمِعَ صَوْتًا فِي سَحَابَةٍ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ ، فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ، فَأَفْرَغَ مَاءَهُ فِي حَرَّةٍ ، فَانْتَهَى إِلَى الْحَرَّةِ ، فَإِذَا هُوَ فِي أَذْنَابِ شِرَاجٍ، وَإِذَا شَرَاجَةٌ مِنْ تِلْكَ الشِّرَاجِ قَدِ اسْتَوْعَبَتْ ذَلِكَ الْمَاءَ كُلَّهُ ، فَتَبعَ الْمَاءَ فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ فِي حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ الْمَاءَ بمِسْحَاتِهِ ، فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ ، مَا اسْمُكَ ؟ قَالَ : فُلانٌ . بالاسْمِ الَّذِي سَمِعَ فِي السَّحَابَةِ، فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، لِمَ سَأَلْتَنِي عَنِ اسْمِي ؟ قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ صَوْتًا فِي السَّحَابِ الَّذِي هَذَا مَاؤُهُ ، يَقُولُ : اسْقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ باسْمِكَ ، فَمَا تَصْنَعُ فِيهَا ؟ قَالَ : أَمَا إِذَا قُلْتَ هَذَا؛ فَإِنِّي أَنْظُرُ إِلَى مَا خَرَجَ مِنْهَا ، فَأَتَصَدَّقُ بثُلُثِهِ ، وَآكُلُ أَنَا وَعِيَالِي ثُلُثَهُ ، وَأَرُدُّ ثُلُثَهُ) (14).

ومن أشكال الصدقات والبرِّ في مثل هذه الأيام، مساعدة الفقراء والمُعوزين واليتامى والأرامل، بشراء الملابس الشتوية لهم، ودفع الرسوم الجامعية لطلبة العلم منهم ، وتوفير الدواء لمرضاهم،  وإدخال السرور على قلوبهم، ورسم البسمة على وجوههم، بما أفاء الله سبحانه وتعالى علينا من النِّعم، لقوله – صلّى الله عليه وسلّم- : ( اتَّقُوا النَّارَ وَلوْ بِشِقِّ تَمْرةٍ) (15)،  ومن المعلوم أنَّ منع الزّكاة سبب مباشر لغضب الله عزَّ وجلَّ، فقد جاء في الحديث: (... وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ، إِلا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَوْلا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا)(16).

شكر الله سبحانه وتعالى على نعمة الغيث

انطلاقاً من قوله سبحانه وتعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ* أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ* لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ }(17).

إِنَّ الواجب علينا جميعاً أنْ ننظر إلى نِعَمِ الله سبحانه وتعالى علينا فنتأمّلها، ونشكر الله عليها، وأَنْ نعرف أنّ وراء هذه النِّعم مُنْعم وخالق ورزَّاق هو الله عزّ وجلّ كما جاء في قوله سبحانه وتعالى :{فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ* أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا* ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا* فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا* وَزَيْتُونًا وَنَخْلا* وَحَدَائِقَ غُلْبًا*وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ}(18) .

ومن المعلوم أَنَّ القرآن الكريم قد تحدّث عن فضيلة الشكر كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} (19)، ورسولنا – صلّى الله عليه وسلّم – كان الأسوة الحسنة والقدوة الصالحة في الشكر لخالقه عزَّ وجلَّ، فكان – عليه الصَّلاة والسَّلام- يقوم الليل مُتَهَجِّداً راكعاً ساجداً حتى تتفطَّر قدماه وتفيض عيناه بالدّموع خشية من الله سبحانه وتعالى، كما جاء في الحديث عن عائشة- رضي الله عنها – قالت: (كَانَ رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ - إذا صلَّى  قَامَ حتى تَفَطَّرتْ رِجْلاَهُ، قالت عائشةُ : يا رسولَ اللهِ، أَتَصْنَعُ هذا وقد غُفِرَ لكَ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبكَ وما تأخَّرَ ؟ فقال : يا عَائِشَةُ أَفَلاَ أكُونُ  عَبْدًا شَكُورًا؟ )(20)، فبالشكر تزداد النّعم ، وبالجحود تزول وتنتهي، كما قال الشاعر:

إذا كنتَ في نعمةٍ فارْعَهَا         فإنَّ المعاصي تُزيِلُ النّعم

وداومْ عليها بشـكرِ الإلهِ        فـإنَّ الإلهَ سريعُ النّقـــم

نسأل الله العليَّ القدير في فصل الفضائل والبركات أنْ يَمُنَّ على شعبنا وأُمّتنا بالخير والبركات، وأَنْ يُؤَلِّف بين قلوبهم، وأَنْ ينشر المحبّة والتّراحم والتّكافل فيما بينهم، إِنّه سميع قريب .

وصلّى الله على سيِّدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين

الهوامش:

  1. سورة الشورى الآية(28)             
  2. سورة النحل الآية (18)               
  3. سورة ق  الآية( 9)                                               
  4. سورة  الفرقان الآية( 48)                  
  5. سورة  النحل الآية (65)                  
  6. سورة الأنبياء الآية (30)                   
  7. أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد3/258
  8. لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف(356)          
  9. سورة آل عمران الآية (17)            
  10. أخرجه مسلم           
  11. فتح المنعم شرح صحيح مسلم 2/156          
  12. الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 18 /302                          
  13. أخرجه البخاري     
  14. أخرجه مسلم                                   
  15. أخرجه البخاري     
  16. أخرجه ابن ماجه   
  17. سورة الواقعة الآية ( 68-70 )    
  18. سورة عبس الآية ( 24-32 )        
  19. سورة إبراهيم الآية (7)
  20. أخرجه مسلم