الحمد لله ربّ العالمين والصَّلاة والسَّلام على رسوله الأمين محمد – صلّى الله عليه وسلّم -، وعلى آله وأصحابه الطَّيبين الطَّاهرين، ومن اقتفى أثرهم وسارَ على دربهم إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ* الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ* إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ* فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ* أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثونَ* الَّذِينَ يَرِثونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}(1).
لقد سُمِّيت السورة الكريمة "سورة المؤمنون" لأنَّ الله تعالى ذكر فيها جلائلَ أوصافهم ، وكرائمَ صفاتهم ، وعَرَض فيها للفضائل الإنسانية التي تحلَّى بها أولئك الصفوةُ المؤمنون من عباد الله المخلصين ، ولذلك سُمِّيت "سورةُ المؤمنون " تخليداً لهم وإشادةً بمآثرهم وفضائلهم، وتبتدئ السورة الكريمة بأوصاف المؤمنين العظيمة التي استحقوا بها ميراث الفردوس الأعلى في جنّات الخُلد مع النبيين والصدّيقين .
العِفَّة خُلُقٌ إيماني رفيع
إِنّ العِفّة خُلُق إيماني رفيع، ومعناها في الإسلام صيانة النّفس والروح عن الدّنايَا، حتى ولو كان للبدن في ذلك لِذّة وشهوة، فالعِفَّة هي طلب العفاف وكَفُّ النفس عن المحارم التي حرّمها الله سبحانه وتعالى، وعَمَّا لا يَجْمُل بالإنسان فِعْله، والاكتفاء بما أحَلَّ سبحانه وتعالى وإِنْ كان قليلاً، ونظرًا لأهميتها فقد أمرنا الله سبحانه وتعالى بها، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ}(2)،يعني: ليطلب العِفّة، ويبحث عن طُرقها ووسائلها، والنتيجة هي: سيغنيه الله من فضله سبحانه وتعالى.
كما حثّ عليها نبينا –صلّى الله عليه وسلّم- في عددٍ من الأحاديث الشريفة، منها: قوله- صلّى الله عليه وسلّم- :(اللهُمَّ إني أسأَلُكَ الهُدَى والتُّقَى، والعَفَافَ والغِنَى) (3)، وقوله - صلّى الله عليه وسلّم-: (عِفُّوا تَعِفَّ نِسَاؤُكُمْ ) (4)، وقوله - صلّى الله عليه وسلّم- أيضاً : (ثَلاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُمْ : الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَالْمُكَاتَبُ الَّذِي يُرِيدُ الأَدَاءَ ، وَالنَّاكِحُ الَّذِي يُرِيدُ الْعَفَافَ) (5).
إنِّي أخافُ الله
لقد رَغَّبَ رسولنا -صلّى الله عليه وسلّم- في العِفَّة أَشَدَّ ترغيب، كما جاء في الحديث أنّ رسول الله -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ : (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ: ... ) وذكر منهم: (وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ)(6).
يُبَيِّن رسولنا – صلّى الله عليه وسلّم – في الحديث السابق طهارة المسلم وعِفَّته، حيث يحرص المسلم على عدم الانزلاق في طُرُق الغِوَاية والضّلال والمعاصي مهما كانت المُغريات، لأنّ الخوف من الله خِصْلة من خِصَالِ الإيمان، فَمَنْ كان عفيفاً في حياته فهو في ظِلِّ عَرْشِ الله يوم لا ظِلَّ إلا ظِلّه مع أنبيائه وأصفيائه.
ومن الأوصاف الجليلة للمؤمنين كما جاء في الآيات الأولى من "سورة المؤمنون"، قوله سبحانه وتعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ)، أي أنهم عَفُّوا عن الحرام وصانوا فروجهم عمَّا لا يَحِلّ من الزّنا وكشف العورات، أي هم حافظون لفروجهم في جميع الأحوال، ولعلَّك تجد أخي القارئ في هذا التعبير دِقَّة بالغة، إذ عَبََّر عن الفروج بالحفظ كما عَبَّّر عن الصلاة بالحفظ {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} كَأَنَّ حفظ الأعراض لا يقلّ عند الله سبحانه وتعالى عن حفظ الصلاة، فهذه عبادة وتلك عبادة .
الطريق إلى العِفَّة
لقد اشتمل القرآن الكريم على أحكام العفاف والطّهر والاحتشام، وهي أحكام عليها يقوم المجتمع النّقي الفاضل، وبدونها تنحطّ المجتمعات ويصير أمرها فُرُطا، كما اشتملت سُنّة رسولنا – صلّى الله عليه وسلّم – على الحثّ بالتزام طريق العِفّة والاحتشام.
ومن المعلوم أنَّ ديننا الإسلامي الحنيف لا يُحارب الشهوة أو الغرائز، لكنّه يعمل على تهذيبها ضمن الأُطر الشرعية، فقد حرّم الإسلام الزّنا وأوجد البديل وهو الزواج، فهذا رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم- يُخاطب الشباب قائلاً: (يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ )(7).
وقد عالج رسولنا – صلّى الله عليه وسلّم – بعض الحالات الشّاذة هنا وهناك بحكمته المعهودة، كما جاء في الحديث عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ : (إِنَّ فَتًى شَابًّا أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، ائْذَنْ لِي بِالزِّنَا . فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ فَزَجَرُوهُ، قَالُوا : مَهْ مَهْ ، فَقَالَ : ادْنُهْ ، فَدَنَا مِنْهُ قَرِيبًا ، قَالَ: فَجَلَسَ. قَالَ : أَتُحِبُّهُ لأُمِّكَ ؟ قَالَ : لا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ . قَالَ : وَلا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لأُمَّهَاتِهِمْ . قَالَ : أَفَتُحِبُّهُ لابْنَتِكَ؟ قَالَ: لا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ . قَالَ : وَلا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ . قَالَ : أَفَتُحِبُّهُ لأُخْتِكَ ؟ قَالَ : لا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ . قَالَ : وَلا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لأَخَوَاتِهِمْ . قَالَ : أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ ؟ قَالَ : لا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ . قَالَ : وَلا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ . قَالَ : أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ ؟ قَالَ: لا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ . قَالَ: وَلا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالاتِهِمْ. قَالَ : فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ، وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ، فَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ)(8) .
لقد استطاع رسولنا – صلّى الله عليه وسلّم – بأسلوبه الطّيّب وبحكمته المعهودة، وتأثيره على هذا الشاب في إقناعه وتحبيبه بالعِفَّة وتقوى الله، كما بَغَّضَه في الزّنا بأسلوب تربوي يشتمل على الموعظة الحسنة، حتى قال هذا الشاب: "والله ما إِنْ قال الرسول– صلّى الله عليه وسلّم – ما قال، حتى انصرفتُ عنه ولا شيء أبغض إلى نفسي من الزّنا...!! ".
الإسلام يحثُّ على الزواج
إِنّ الزواج فطرة إنسانية وَسُنَّة شرعية ونعمة إلهية ، لذلك فقد حَثَّ ديننا الإسلامي على الزواج الشرعي الذي يوُافِقُ الفطرة الإنسانية، تحصيناً للنّفس، وكسراً للشّهوة، وتكويناً للأسرة المسلمة، وتحقيقاً لإرادة الله في بقاء هذا النوع، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ}(9)، وكما جاء في الحديث الشريف: ( يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وَجَاءٌ).
لذلك يجب علينا أن نُيَسِّرَ أمرَ الزواج للشّباب ونتعاون على تسهيله وتحقيقه، حتى نحميهم من الانحراف؛ لأنَّ أسبابه كثيرة، وطرقه مُذَلَّلَة، لا سِيَّمَا في مثل هذه الأيام التي كَثُرت فيها الفتن والشهوات.
ومن المعلوم أنَّ غلاء المهور أصبح - وللأسف الشديد- في كثيرٍ من المناطق مظهراً من المظاهر التي يتفاخر بها الناس فيما بينهم، فالإسلام أوجب الصَّداق، ولكنه جعله رمزاً وتشريفاً وتكريماً للمرأة، فلو كانت المُغَالاة في المُهور مَكْرُمَة وفضيلة لكان أولى الناس بها نبيّنا- صلّى الله عليه وسلّم- ، لكنّه – صلّى الله عليه وسلّم – لم يفعل ذلك، بل رغَّب – صلّى الله عليه وسلّم- في تيسير المهور وتخفيفها، كما جاء في الحديث عَنْ عَائِشَةَ – رضي الله عنها-، عَن النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-،أنه قَالَ: (أَعْظَمُ النِّسَاءِ بَرَكَةً أَيْسَرَهُنَّ مَؤُونَةً) (10)، وعَنْ أَبِي الْعَجْفَاءِ السُّلَمِيِّ قَالَ: (خَطَبَنَا عُمَرُ-رَحِمَهُ اللَّهُ- فَقَالَ: أَلا لا تُغَالُوا بِصُدُقِ النِّسَاءِ، فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَكْرُمَةً فِي الدُّنْيَا، أَوْ تَقْوَى عِنْدَ اللَّهِ، لَكَانَ أَوْلاكُمْ بِهَا النَّبِيُّ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، مَا أَصْدَقَ رَسُولُ اللَّهِ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ، وَلا أُصْدِقَتْ امْرَأَةٌ مِنْ بَنَاتِهِ، أَكْثَرَ مِنْ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً)(11 ).
هذا هو ديننا الإسلامي الحنيف الذي يُرشدنا إلى وجوب التَّحَلِّي بمكارم الأخلاق، وعندما نتمسّك بالأخلاق الفاضلة فإنها تعود علينا بكلّ خير، فالرسالة الإسلامية جاءت من أجل إتمام مكارم الأخلاق لقوله -صلّى الله عليه وسلّم: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ صَالِحَ الأَخْلاَقِ)(12).
وصلّى الله على سيّدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
الهوامش :
1- سورة المؤمنون الآية (1-11)
2- سورة النور الآية (33)
3- أخرجه مسلم
4- أخرجه الطبراني في الأوسط
5- أخرجه الترمذي
6- أخرجه البخاري
7- أخرجه البخاري
8- أخرجه أحمد
9- سورة النحل الآية (72)
10- أخرجه أحمد
11- أخرجه أبو داود
12- أخرجه أحمد