2023-03-23

في ذكرى الإسراء والمعراج


2023-02-17

 الحمد لله ربّ العالمين والصَّلاة والسَّلام على رسوله الأمين محمد – صلّى الله عليه وسلّم -، وعلى آله وأصحابه الطَّيبين الطَّاهرين، ومن اقتفى أثرهم وسارَ على دربهم إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

 يعيش المسلمون في هذه الأيام في ظلال ذكرى الإسراء والمعراج، حيث تعود هذه الذكرى المباركة لِتملأ الأرجاء بأريج النُّبُوَّة، وتشدّ قلوب المسلمين إلى التّأمل في هذا الحدث العظيم الذي كرَّم الله به نبينا محمداً – صلّى الله عليه وسلّم-، فحادثة الإسراء والمعراج ليست مُجَرَّد واقعة تتناولها الأقلام كحدث تاريخي مضى وانقضى عهده، أو معجزة لرسول انفصلت بزمانها عن واقعنا المُعاصر، وإنما هي معجزة حيّة باقية يتردّد صَدَاها عبر المكان والزّمان، وتستضيء القلوب بنورها الوَهَّاج وسراجها المُنير، فتسمو بذات المُسلم وترتقي به وتفتح أمامه أبواب القُرْبِ من الله سبحانه وتعالى .

القدس أرض الإسراء والمعراج

من المعلوم أنّ أرض القدس المُباركة هي أرض الإسراء والمعراج، كما جاء في الحديث عن أنس بن مالك- رضي الله عنهما - أنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- قال: "أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ ( وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ طَويلٌ فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ) قَالَ : فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، قَالَ: فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي يَرْبِطُ بِه الأنْبِيَاء قَالَ: ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَصَلَّيْتُ فِيِه رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجْتُ، فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلام بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ،  فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ ، فَقَال جِبْرِيلُ – صلى الله عليه وسلم – اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ، ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاء ، فاسْتَفْتَحَ جبريلُ فَقِيل : مَنْ أنت ؟ قال : جبريلُ. قِيلَ: ومَنْ مَعَكَ ؟ قال: محمدٌ ... " (1).   

المسجد الأقصى المُبارك قلب المدينة المُقدسة هو محور الارتكاز في رحلة الإسراء والمعراج، فهو نهاية الإسراء وبداية المعراج، وتلك دلالة واضحة على مكانة المسجد الأقصى المبارك بالقدس، حماه الله من كيد الكائدين.

الرّبط بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى

إِنَ من أهمّ العِظات والعِبَر المأخوذة من رحلة الإسراء والمعراج هي التّفكّر في ربط الله سبحانه وتعالى  بين المسجد الحرام بمكة المكرمة والمسجد الأقصى بمدينة القدس، فهذا الربط لم يكن عَبَثاً ولكنه إشارة وتنبيه لهذه الأمة بضرورة المُحافظة على المسجد الأقصى المبارك؛ لِمَا لَهُ من القُدسية عند الله سبحانه وتعالى، وقد تجلّى ذلك الرّبط في أمور عديدة، منها:

* لقد ربط الله –سبحانه وتعالى- بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى المبارك برباط وثيق في الآية الأولى من سورة الإسراء، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}(2).

* كما ربط رسولنا - صلّى الله عليه وسلّم - المسجد الأقصى المُبارك بشقيقيه المسجد الحرام والمسجد النبوي، فقد جاء في الحديث أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم- قال: (لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إلَى ثَلاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّـمَ- وَمَسْجِدِ الأَقْصَى)(3).

* لقد كان المسجد الأقصى المبارك القبلة الأولى للمسلمين منذ فُرضت الصلاة في ليلة الإسراء والمعراج حتى أَذِنَ الله بتحويل القبلة إلى بيت الله الحرام، كما جاء في الحديث الشريف: عن البراء بن عازب -رضي الله عنه-  قال: (صَلَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا ثُمَّ صُرِفْنَا نَحْوَ الْكَعْبَةِ )(4).

* كما أنّ المسجد الأقصى المبارك هو ثاني مسجد بُنِيَ في  الأرض بعد المسجد الحرام، كما جاء في الحديث الشريف عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: (قلْتُ: يَا رَسُولَ الله أَيُّ مَسْجدٍ وُضعَ في الأرْضِ أوَّل؟ قَالَ: "اَلْمسجِدُ الْحَرَامُ"، قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: "اَلْمَسجِدُ الأقْصَى"، قُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: "أَرْبَعُونَ سَنَةً، ثُمَّ أَيْنَمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلاةُ بَعْدُ فَصَلِّهْ، فَإِنَّ الْفَضْلَ فِيه")(5).

الأقصى والقدس ...في ذكرى الإسراء والمعراج

تحلّ علينا هذه الذكرى المُباركة و مسرى رسولنا – صلّى الله عليه وسلّم- يَئِنّ ويزداد أَنِينهُ يوماً بعد يوم ،لِمَا يتعرّض له من تدنيس واعتداءات من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي، وما يجري في المسجد الأقصى المبارك في هذه الأيام يُعَدُّ استباحة مُبرمجة من قبل قوات الاحتلال التي تستهدف تجفيف الوجود الإسلامي في المسجد الأقصى، من خلال منع المصلين والمُرابطين من الوصول إليه، وَسَعْيَهم لفرض السّيادة الإسرائيلية عليه من خلال مُحاولة تقسيمه زمانيًا ومكانيًا تمهيدًا لإقامة ما يُسَمَّى بالهيكل المزعوم على أنقاضه، وما الاقتحامات اليومية للمسجد الأقصى بقيادة كبار المسؤولين المُتطرفين عنّا ببعيد، وكذلك الحفريات الإسرائيلية المُدَمِّرة والأنفاق المُتَعَدِّدَة التي تَسَبَّبَتْ في تقويض بُنيانه وزعزعة أركانه، وإننا نُؤَكِّد على أنَّ جميع المُحاولات التي تقوم بها سلطات الاحتلال الإسرائيلي لفرض أمرٍ واقعٍ في المسجد الأقصى لن تنجح إِنْ شاء الله في تغيير الحقائق وطمس المعالم.

 كما أنَّ  بلادنا المباركة بصفة عامة ومدينة القدس بصفة خاصة ما زالت تتعرَّض لأبشع ألوان الظُّلم والعدوان، حيث تُواجه مجزرة بشعة من قبل سلطات الاحتلال الإسرائيلي تستهدف الإنسان والمُقدّسات والتّاريخ والحضارة في ظِلّ تعتيمٍ إعلاميٍّ كبير، وما يحدث في حيّ الشيخ جراح وحيّ البستان وفي سلوان والعيساوية وجبل المُكبّر وغيرها ليس عنّا ببعيد، فالاعتداءات الإسرائيلية في القدس كثيرة ومتعدّدة طالت كلّ شيء فيها من إغلاقٍ للمُؤسّسات، وملاحقةٍ للقيادات الدينية والوطنية، ونهبٍ للأرض، وهدمٍ للبيوت، وتدميرٍ للمقابر، وإقامةٍ للقبور الوهمية، وفرضٍ للضّرائب، وسحبٍ للهويّات، بالإضافة إلى تزوير المناهج التّعليمية وتزييف التّاريخ، فكلّ مَعْلَمٍ عربي وإسلامي في القدس يتعرّض لخطر الإبادة والتّهويد.

تحية إجلال وإكبار للمُرابطين

إننا نتوجه بالتحية والتقدير إلى أهلنا في مدينة القدس وفلسطينيي الداخل بصفة عامة وإلى سَدَنة المسجد الأقصى المبارك وحُرَّاسه  وطلاب مصاطب العلم والمُصلين والمُرابطين والمُعتكفين بصفة خاصة على دورهم المُمَيّز في الدّفاع عن المسجد الأقصى المبارك والمدينة المقدسة.

إِنَّنا نُشيد بِصُمود أهالي المدينة المقدسة وتمسّكهم الدائم بالدّفاع عن أقصاهم ومُقدّساتهم، وتصدّيهم المُسْتمر لِمُخَطّطات سلطات الاحتلال الإسرائيلي، حيث يُثبتون في كلّ يوم بسالةً وقوة وتضحية في دفاع مُنقطع النّظير عن أرضهم المُباركة، وما يحدث في هذه الأيام من وقفات مُشَرِّفة لأهالي المدينة المقدسة ليس عنّا ببعيد، فمسئولية الدّفاع عن المسجد الأقصى ليست مسئولية الشعب الفلسطيني وحده وإِنْ كان هو رأس الحربة في الذَّوْدِ عنه، إِنّما  هي مسئولية العرب والمسلمين جميعاً في مُسَاندة هذا الشعب المُرابط والوقوف بجانبه ودعم صُموده؛  للمحافظة على أرضه ومقدساته.

 لذلك فإننا نُناشد أبناء الأمتين العربية والإسلامية أَلاَّ ينسوا مسرى نبيهم محمد- صلّى الله عليه وسلّم- وأهله، وأن يعملوا جاهدين على المُحافظة على هذه المدينة المُباركة، فالواجب عليهم دعم أشقّائهم المقدسيين في شَتَّى المجالات كي يبقوا مرابطين ثابتين فوق أرضهم المُباركة؛ لأنَّ المواطن المقدسي هو الذي يُدافع عن الأقصى والقدس والمقدسات صباح مساء.

أدركوا القدس والأقصى قبل فوات الأوان

 إِنّ مدينة القدس  بحاجة إلي خُطوات فعلية تُسهم في المُحافظة على عروبتها وإسلاميتها ودعم صُمود أهلها، فمدينة القدس احتُلّت عبر التاريخ مرات عديدة ولكنها لفظت المُحتلين وستلفظ هذا المُحتل إن شاء الله، هذه المدينة المُقدسة في أَمَسِّ الحاجة إلى أيِّ جُهْدٍ يُميِطُ اللّثام عمّا يجري من أعمال بشعة بحقها وترُاثها وأهلها، والتي تُشَكِّل إهانة للإنسانية ووصمة عارٍ في جبينها. 

إِنّ مسئولية الدفاع عن مدينة القدس والمسجد الأقصى المبارك والمقدسات ليست مسئولية الشعب الفلسطيني وحده وإن كان هو رأس الحربة في الذّود عنها وحمايتها، إِنَما  هي مسئولية العرب والمسلمين جميعاً  في العمل على تحرير المدينة المقدسة والمُحافظة عليها ، وَمُسَاندة هذا الشعب المُرابط والوقوف بجانبه ودعم صُموده للمحافظة على أرضه ومقدساته، خصوصاً في هذه الأيام التي تتعرّض فيها مدينة القدس والمسجد الأقصى المُبارك لمؤامرات خبيثة.

فمدينة القدس اليوم ليست بحاجة إلى الأقوال ولا التصريحات، ولكنها بحاجة إلى ترجمة هذه الأقوال إلى أفعال على أرض الواقع، حيث إِنّ الواجب على أبناء الأمتين العربية والإسلامية بنابابدعم المقدسيين في شَتَّى المجالات الصحية والإسكانية والتعليمية والتجارية والإغاثية،كي يبقوا مرابطين صامدين ثابتين فوق أرضهم المباركة؛لأنّ المواطن المقدسي هو الذي يُدافع عن الأقصى والقدس والمقدسات، وَيُشَكّل الصخرة التي تتحطّم عليها جميع المؤامرات.

نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يحفظ أمتنا وشعبنا والقدس والأقصى والمقدسات وبلاد المسلمين من كلّ سوء

وصلّى الله على سيّدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

 الهوامش:

1-أخرجه مسلم        

2- سورة الإسراء الآية (1)

3- أخرجه البخاري    

4- أخرجه مسلم       

5- أخرجه البخاري