الحمد لله ربّ العالمين والصَّلاة والسَّلام على رسوله الأمين محمد – صلّى الله عليه وسلّم -، وعلى آله وأصحابه الطَّيبين الطَّاهرين، ومن اقتفى أثرهم وسارَ على دربهم إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
أخرج الإمام مسلم في صحيحه عَنْ أَبي سَلَمَةَ- رضي الله عنه- قَالَ : ( سَأَلْتُ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- عَنْ صِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ، فَقَالَتْ : كَانَ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ قَدْ صَامَ ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ قَدْ أَفْطَرَ ، وَلَمْ أَرَهُ صَائِمًا مِنْ شَهْرٍ قَطُّ أَكْثَرَ مِنْ صِيَامِهِ مِنْ شَعْبَانَ، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلا قَلِيلا )(1) ، ومعنى يصوم شعبان كلّه: أي أكثره، والعرب تُطلق الكلّ على الأكثر.
هذا حديث صحيح، أخرجه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب الصيام، باب صيام النبي – صلّى الله عليه وسلّم- في غير رمضان، واستحباب أن لا يُخلي شهراً عن صوم.
يعيش المسلمون هذه الأيام في ظلال شهر كريم هو شهر شعبان، وهو مِنْ أفضل الشهور التي كان يخصّها رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم- بالصّيام، كما جاء في الحديث السابق، ولأَنَّ هذا الشهر تُرفع فيه الأعمال إلى ربِّ العالمين، ورسولنا – صلّى الله عليه وسلّم – يُحِبُّ أن يُرفع عمله وهو صائم كما جاء في الحديث عن أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنَ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ؟! قَالَ – صلّى الله عليه وسلّم -: ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ؛ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ؛ وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ)(2)، وشهر شعبان يقع بين شهرين عظيمين، هما: رجب ورمضان، فقد ودَّعنا شهر رجب الذي شهد حادثة الإسراء والمعراج، كما كان تحويل القبلة في شهر شعبان، وهو الشهر الذي يستعدّ فيه المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها لاستقبال شهر رمضان شهر الخير والبركة، بكثرة الصيام والطاعات والقُربات.
تحويل القبلة إلى المسجد الحرام
ها هو شهر شعبان يأتي ومعه ذكرى تحويل القبلة، فقد كان تحويل القبلة في هذا الشهر من بيت المقدس إلى البيت الحرام، ومن المعلوم أَنَّ رسولنا – صلّى الله عليه وسلّم- والمسلمين معه ظَلُّوا يُصَلُّون إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً، كما جاء في الحديث الشريف عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: ( صَلَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا ثُمَّ صُرِفْنَا نَحْوَ الْكَعْبَةِ )(3)، وكان رسولنا – صلّى الله عليه وسلّم – يتمنّى أن يأذن الله له في تحويل القبلة إلى الكعبة، وَيُقَلِّب وجهه في السماء تَرَقُّباً لنزول الوحي بذلك وتضرُّعاً إلى
الله عزَّ وجلَّ، فنزلت: {قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}(4)، فَصُرِف إلى الكعبة، وفي هذا تكريم من الله سبحانه وتعالى لرسوله – صلّى الله عليه وسلّم – واستجابة له.
فقد ذكر علماء الحديث والسّيرة أنّ تحويل القبلة كان في شهر شعبان وجزم بها الإمام النووي في شرحه لصحيح الإمام مسلم، حيث أكَّد أنّ تحويل القبلة من بيت المقدس إلى بيت الله الحرام كان في شهر شعبان من السنة الثانية من الهجرة وفي اليوم الخامس عشر منه، وذلك بعد أَنْ صلَّى رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – والمسلمون معه نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً.
ليلة النصف من شعبان ورفع الأعمال
لقد بيّن لنا رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – فضل أوقات معينة، منها شهر شعبان عامة وليلة النّصف منه بصفة خاصة، لأسباب صَرَّح بها ومنافع دعا إلى اكتسابها ، فليلة النصف من شعبان ليلة مباركة جليلة، يتجلَّى الله سبحانه وتعالى فيها على عباده بالرحمة والمغفرة، ففيها يُستجاب الدّعاء، وَتَعُمّ المغفرة، وتهبط الملائكة على أهل الأرض بالرحمة، ولله فيها عتقاء كثيرون من النار، حيث ينظر الله سبحانه وتعالى إلى عباده، فيغفر للمستغفرين، ويتجاوز عن سيئات التائبين.
إِنَّ ليلة النصف من شعبان ليلة مغفرة ورحمة و عفو وإحسان، يَطَّلِعُ فيها الله سبحانه وتعالى إلى عباده فيغفر لجميع خلقه إلاّ صنفين (لِمُشْرك أو لِمُشَاحِن)، كما جاء في الحديث الشريف أَنَّ رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم - قال: (إِنَّ اللهَ لَيطَّلِعُ في ليلةِ النِّصفِ من شعبانَ ، فيَغفِرُ لجميع خلْقِهِ، إلا لِمُشْركٍ أو مُشاحِنٍ)(5)،أَمَّا المُشرك: فلقوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء}(6)، وأَمَّا المُشاحِن: فهو الذي تكون بينه وبين أخيه المُسلم شحناء وخُصومة، كما جاء في الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا، إِلا رَجُلاً كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا)(7).
فعلى الإنسان أَن يُبادر قبل أن تأتي تلك الليلة ، فيتبرَّأَ من الشّرك ومن الشّحناء، ويُطَهِّر حياته ونفسه وقلبه من كلّ ذلك ، حتى يُدرك مغفرة الله عزَّ وجلَّ في تلك الليلة بإذنه سبحانه وتعالى.
تحويل القبلة....ووحدة الأمة الإسلامية
فما أَحْرَانا ونحن نعيش في ظلال ذكرى تحويل القبلة أَنْ تكون دعواتنا أَنْ يُصلح الله من أحوالنا، وأَنْ يُلهم أمّتنا الصَّواب والرَّشاد، فمن الواجب على المسلمين أن يتعلّموا من وحدة القبلة ضرورة وحدة الأمة الإسلامية، فأمتنا العربية والإسلامية اليوم أحوج ما تكون إلى الوحدة ورصّ الصفوف في ظلّ الظروف القاسية التي يَمرُّ بها العالم اليوم ، هذا العالم الذي لا مكان فيه للضعفاء ولا للمُتفرقين.
ويتجلّى في توحيد القبلة الأثر الواضح في وَحْدة المسلمين، فمهما تباعدت أقطارهم ودولهم واختلفت أجناسهم وألوانهم فإِنّهم يتّجهون إلى قبلة واحدة، فتتوحّد عواطفهم ومشاعرهم ويستشعرون الانتماء الروحيّ والدينيّ والعاطفيّ في اتجاههم إلى أقدس بُقعة وأشرف مكان اختاره الله سبحانه وتعالى بيتاً له، وأمرَ بالطّواف حوله والاتّجاه إليه في كلّ صلاة .
إِنَّ ديننا الإسلامي الحنيف يُرْشدنا إلى أهمية الاتحاد واجتماع الكلمة ليرقى بذلك أن يكون أصلاً من أصول الدين، وأمراً ربانيا ًتَضَمَّنَهُ القرآن الكريم، وتأكيداً نبوياً فيما لا يُحْصَى من الأحاديث الصحيحة الصريحة، وتطبيقاً عملياً لحياة الصحابة والتابعين –رضي الله عنهم أجمعين-، بينما نجد واقع المسلمين اليوم يُنبئ عن قدرٍ كبير من الاختلاف والتّباعد.
عجيب أمر المسلمين!! إلههم واحد، ورسولهم واحد، وقرآنهم واحد، وقبلتهم واحدة، ومع ذلك فهم دُوَل مُمَزَّقة وشعوب مُتَفَرِّقة، مع أنَّ الإسلام يدعوهم إلى الوحدة في صراحة واضحة لا تحتاج إلى تفسير ولا إلى تأويل، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى:{وَاعْتَصِمُواْ بحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ}(8).
ما أحوج أمتنا العربية والإسلامية إلى الوحدة والتَّرَفُّع عن الأحقاد، وطيّ صفحات الماضي المُؤلمة، وأن نفتح جميعاً صفحة جديدة من المَحَبَّة والإخاء، ففي ظلّ التعاليم القرآنية والسُّنَّة النبوية الشريفة تعيش البشرية حياة الأمن والخير والسعادة .
إِنَّ شعبنا الفلسطيني اليوم وفي ظِلِّ الظروف الصّعبة التي يَمُرُّ بها أحوج ما يكون إلى الوحدة والمحبَّة، فالقدس لم تُحَرَّر عبر التاريخ إلا بالوحدة، ولن تتحرّر إلا بالوحدة، فإذا كُنّا مُوَحَّدين فإنّ جميع المؤامرات ضِدّ شعبنا الفلسطيني سيكون مصيرها الفشل بإذن الله، فعلى صخرة الوحدة تفشل التهديدات وتتحطّم المُؤامرات الخبيثة التي تُُحاك ضدّ شعبنا المرابط وأرضنا المباركة.
اللهـمّ بارك لنا في شعبان، وبلّغنا رمضان
أخرج الإمام البيهقي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ – رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا دَخَلَ رَجَبٌ قَالَ: ( اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي رَجَبٍ، وَشَعْبَانَ، وَبَلِّغْنَا رَمَضَانَ) (9 ).
هذا هو شهر شعبان بنفحاته الطّيبة وبركاته العديدة ومآثره الباقية ، فهو توطئة لشهر رمضان المبارك، فعلينا أَنْ نتهيّأَ فيه لاستقبال سَيِّد الشهور بكثرة الطاعات وكثرة الصيام والتوبة والاستغفار والبُعْدِ عن المعاصي والآثام، لذلك يجب على المسلمين جميعاً أَنْ يجعلوا شهر شعبان فاتحة خيرٍ يُقبلون فيه على الطاعات والقُربات، من صلاة وصيام وقيام وتلاوة للقرآن والاستغفار وفعلٍ للخيرات، والبُعْد عن المعاصي والآثام، وأَنْ نعمل جاهدين على أن يكون شهر شعبان فرصة لنا جميعاً للتوبة الصادقة.
كما يتوجَّب على المسلمين الاستعداد لشهر رمضان المبارك الذي جعله الله سَيِّدَ الشّهور، وأفاضَ فيه الخير والنور، فهو من أوفرها خيراً، وأكثرها بركة، وأَعَمِّها نفعاً ورحمة للعالمين، فهو شهر كريم وموسم عظيم، فما أحوجنا لاستقباله بقلب سليم وعهد جديد.
اللهم بارك لنا في شعبان، وبلِّغنا رمضان، واحفظ أمتنا وشعبنا ومقدساتنا وبلاد المسلمين من كلّ سوء
وصلّى الله على سيّدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين
الهوامش :
1-أخرجه مسلم
2- أخرجه النسائي
3- أخرجه مسلم
4- سورة البقرة الآية (144)
5- أخرجه ابن ماجه
6- سورة النساء الآية(48)
7- أخرجه مسلم
8- سورة آل عمران الآية (103)
9- أخرجه البيهقي