2023-06-11

شهر رمضان ... شهر القرآن والصدقات


2023-03-31

 الحمد لله ربّ العالمين والصَّلاة والسَّلام على رسوله الأمين محمد – صلّى الله عليه وسلّم -، وعلى آله وأصحابه الطَّيبين الطَّاهرين، ومن اقتفى أثرهم وسارَ على دربهم إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

أخرج الإمام البخاري في صحيحه عن أبي هريرة – رضي الله عنه- قال : قال رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم- : (قال اللهُ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ ، إِلا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بهِ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ، وإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلا يَرْفُثْ وَلا يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ،  لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا، إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بصَوْمِهِ)(1 ).   

هذا حديث صحيح أخرجه الإمام البخاري في صحيحه ، في كتاب الصوم ، باب هل يقول: إني صائمٌ إذا شُتِمَ.

 يعيش المسلمون في هذه الأيام في ظلال أيام مباركة من شهر رمضان المبارك، شهر الخير والبركة، شهر التسابيح والتراويح، شهر الصيام والقيام وتلاوة القرآن، وهو شهر أوله رحمه وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار، وهو شهر فيه تصفو النفوس وتسمو الأرواح ، وتُفَتَّح فيه أبواب الجنة وتُغَلَّق أبواب النار وتُصَفَّد الشياطين، يَا لَهَا من مِنَحٍ ربانية في شهر البرّ والجود والعتق من النار، تجعل الصائم يتقرّب إلى الله سبحانه وتعالى بالإكثار من أفعال الخير والبرّ، ومساعدة الفقراء والمحتاجين، والتوسعة على الأهل والرّحم.   

تلاوة القرآن الكريم في شهر رمضان

لقد نزل القرآن الكريم في شهر رمضان المبارك قبل أن يُفْرَضَ فيه الصّيام،  فهو شهر القرآن قبل أن يكون شهر الصيام، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}(2)، وثبت في السُّنَّة الصحيحة أنَّ سيّدنا جبريل -عليه السلام- كان يلقى رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم– في كلّ ليلة من ليالي هذا الشهر الكريم فيتدارسان القرآن، ثم سار السّلف الصالح على هدي النبي – صلّى الله عليه وسلّم- في الاهتمام بالقرآن في هذا الشهر الفضيل، فالإمام مالك – رحمه الله – كان إذا دخل هذا الشهر المبارك أقبل على تلاوة القرآن، وترك قراءة الحديث، كما أنّ الإمام الشافعي – رحمه الله – كان يختم القرآن الكريم ستين ختمة في هذا الشهر المبارك.

 إِنَّ القرآن الكريم إذا نزل في قلب الإنسان أصبح خير الناس؛ لأنّ النبيّ – صلّى الله عليه وسلّم– قال: (خَيْرُكُمْ مَن تَعَلَّمَ القُرْآنَ وعَلَّمَهُ) (3)، وإذا نزل القرآن الكريم في حياتنا وفي يومنا يكون ذلك اليوم أفضل الأيام، كم هو جميل أن نتحدّث عن القرآن الكريم في كلّ وقت ، ولكنّ أجملها أن نتذاكر القرآن الكريم في شهر القرآن، هذا الشهر المبارك الذي زاده الرحمن تشريفاً بنزول القرآن الكريم فيه .

ومن المعلوم أنّ كل شيء يرتبط بالقرآن الكريم يُصبح عظيماً، فقد نزل سيّدنا جبريل – عليه السلام- بالقرآن الكريم فأصبح سيّدنا جبريل أفضل الملائكة، ونزل القرآن الكريم على سيّدنا محمد – صلّى الله عليه وسلّم- فأصبح سيّدنا محمد – صلّى الله عليه وسلّم- سَيِّدَ الخلق، وجاء القرآن الكريم إلى أُمة محمد – صلّى الله عليه وسلّم-  فأصبحت أمة محمد خير أمة، ونزل القرآن الكريم في شهر رمضان فأصبح خير الشهور، ونزل القرآن الكريم في ليلة القدر فأصبحت خير الليالي وخيرًا من ألف شهر.

 

 تكريم رسولنا – صلّى الله عليه وسلّم- لأهل القرآن

 لقد كرّم رسولنا– صلّى الله عليه وسلّم- أهلَ القرآن وحفظته وَمُقْرئيه، انطلاقًا من قوله -عليه الصلاة والسلام- : (إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ)(4)، ومن ذلك أنه– صلّى الله عليه وسلّم –:

* كان يُقَدِّم القُرَّاء الحُفَّاظ للإمامة بالمُصَلِّين،  كما جاء في الحديث:عن أبي مسعود الأنصاريِّ قال: قال رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلّم : (يَؤُمُّ القَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ...)(5).

* وكان يُقَدِّم القُرَّاء الحُفَّاظ من الشهداء تجاه القبلة: كما جاء في الحديث عن جابر بن عبد الله
 – رضي الله عنهما- أنَّ رَسولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ -  كانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ في ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ يقولُ: (أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ؟ فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إلى أَحَدِهِما، قَدَّمَهُ في اللَّحْدِ...) (6).

 *وكان- صلّى الله عليه وسلّم-  أيضًا إذا أرسل سَرٍيَّة يسأل مثلاً، مَنْ يحفظ سورة البقرة؟ فيقول رجل: أنا، فيجعله – صلّى الله عليه وسلّم– أميرًا على السّرية، كما جاء في الحديث: عن أبي هريرة – رضي الله
 عنه – (.... فقالَ  رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم-: مَا مَعَكَ يا فُلانُ ؟ قالَ : مَعي كَذا وَكَذا وَسُورَةُ البقرةِ، قالَ: أَمَعَكَ سُورةُ البْقَرَةِ ؟ فقالَ: نعَم، قالَ: فاذْهَبْ فَأَنْتَ أَمِيرُهُم) (7).

مجالس القرآن الكريم ... رياض الجنة  

إِنَّ مُدارسة القرآن الكريم والاجتماع حول تلاوته في كلّ وقت هَدْي نبوي كريم، وحلقاته المباركة هي اجتماع على تلاوة كلام الله تعالى وَمُدَارسته، ومن فضل الله سبحانه وتعالى أن جعل حلقات القرآن الكريم المُباركة اجتماعاً على تلاوة كلامه سبحانه وتعالى، وهي الموصوفة في الحديث  بــ ( رياض الجنَّة )، كما في قوله – صلّى الله عليه وسلّم- : (إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا، قَالوا:  وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ : حِلَقُ الذِّكْرِ) (8) ، وهي مَحَلّ تنزّل السكينة وغشيان الرحمة واجتماع الملائكة، وسبب ذكر الله للعبد في الملأ الأعلى، كما ورد في الحديث  عن النبي–صلّى الله عليه وسلّم-: (... وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِى بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلاَّ نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ ،وَحَفَّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ) (9).

ما نَقَصَ مالٌ مِنْ صَدَقة

 من الجدير بالذكر أنَّ الصّدقات ليست- كَمَا يظنّ البعض- سَبَباً في قِلّة المال، ولاتُنْقِصه، كما جاء في الحديث(ما نَقَصَ مَالٌ مِنْ صَدَقة)(10)، إنّما هي سَبَبٌ في وجود خَلَفٍ لها بعد خروجها، ، كما جاء في الحديث أنّ رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – قال : (مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلا مَلَكَانِ يَنْزِلانِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا،  وَيَقُولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا )(11 ).

ومن أشكال الصّدقات والبرِّ خصوصاً في مثل هذه الأيام المباركة مُساعدة الأُسر المحتاجة  بتوفير الطعام والغذاء لهم من خلال السّلّة الغذائية، وشراء الملابس لهم من خلال مشروع كسوة العيد، ومُساعدة الضعفاء والفقراء واليتامى والثّكالى والأرامل برسم البسمة على شفاههم، وإدخال السرور على القلوب البائسة بما أفاء الله علينا من النّعم، فإنَّ منع الزّكاة سببٌ مباشر لغضب الله كما جاء في الحديث: (وَلَمْ يَمْنَعُوا زكاةَ أموالهِمِ إلا مُنِعُوا القطرَ من السماءِ، ولولا البهائِمُ لَمْ يُمْطَروا)(12).  

   نداء إلى أهل الخير

   إنّنا نُناشد أهل الخير  بضرورة إغاثة المُحتاجين والفقراء والأيتام وتقديم يَد العون والمساعدة لهم، التزاماً بالنّصوص الشرعية وقيامًا بواجب الأُخُوّة وَسَدًّا لحاجاتهم ، فجميل أن يُخَصِّص الأغنياء من أبناء شعبنا وأمتنا شيئاً من أموالهم لرعاية الأُسَر الفقيرة والمحتاجة .

ونحنُ نعيش في ظلال شهر الخيرات والصدقات فإننا نُذَكِّر أهلَ الخير بالحديث الذي أخرجه الإمام مسلم في صحيحه،  والذي يُبيّن فيه رسولنا– صلّى الله عليه وسلّم -، بأنَّ رجلاً كثير الذنوب، وفي رواية امرأة بغيّ، قد غفر الله لهما؛ لأنهما سَقَيا كلباً كان يأكل الثّرى من العطش.

هذا جزاء مَنْ سَقَى كلباً، فما ظنّك أخي الكريم بجزاء من يسقي ظمآن، وَيُطعم جائعاً، وَيكسو عُرْياناً، ويمسحُ رأس يتيم، وَيُزيلُ الدّمعة من عَيْنَي طفل صغير، خاصة إذا كان هؤلاء من أبناء شعبه ؟!

فهذا نداءٌ نُوَجّهه إلى الأيدي الخَيِّرة والقلوب الرحيمة والأنفس المعطاءة والمؤسسات الخيرية، ليساعدوا إخوة لهم كي يعيشوا حياة كريمة { إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ}(13).

تعالوا أيها الأخوة الكرام،  لنرسم البسمة على الشّفاه المحرومة ، وندخل السرور على القلوب الحزينة، ونمسح رأس اليتامى والمساكين.

أملي أن نستجيب ... فما زال حديث رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – يتردّد على مسامعنا : (مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ)(14).

اللهم اكتبنا من عتقاء شهر رمضان ، اللهم تقبّل منّا الصلاة والصيام والقيام

 وصلّى الله على سيّدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

الهوامش :

  1. أخرجه البخاري               
  2. سورة البقرة الآية (185)
  3. أخرجه البخاري
  4. أخرجه ابن ماجه             
  5. أخرجه مسلم
  6. أخرجه البخاري               
  7. أخرجه الترمذي              
  8. أخرجه الترمذي
  9. أخرجه مسلم
  10. أخرجه أحمد 
  11. أخرجه البخاري
  12. أخرجه ابن ماجه             
  13. سورة الأعراف الآية (56)
  14. أخرجه مسلم