الحمد لله ربّ العالمين والصَّلاة والسَّلام على رسوله الأمين محمد – صلّى الله عليه وسلّم -، وعلى آله وأصحابه الطَّيبين الطَّاهرين، ومن اقتفى أثرهم وسارَ على دربهم إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
ها هو شهر رمضان المبارك قد قَرُب رحيله ومضت أيامه، فما أشبه اليوم بالبارحة، فقد كُنّا في شوق لِلقائه نتحرّى رُؤية هلاله ونتلقّى التهاني بِمَقْدمه، وها نحن في آخر أيامه نتهيّأ لِوَداعه، وهذه سُنّة الله في خلقه، أيام تنقضي وأعوام تنتهي، إلى أن يرث الله الأرض ومَنْ عليها وهو خير الوارثين، ومن الجدير بالذكر أنّ المسلمين في هذه الأيام يقومون بإحياء العشر الأواخر من هذا الشهر المبارك ، فيُكثرون من التَّقرب إلى الله بالذكر والصلاة وتلاوة القرآن والاعتكاف وغير ذلك من ألوان العبادات، حيث نرى المساجد –والحمد لله – تعيش أوقات مباركة وهي تستقبل الآلاف من الرُّكّع السجود الذين يعمرونها بأداء الفرائض، وصلاة التراويح وقراءة القرآن والتسبيح والحمد والشكر لله ربّ العالمين، فتنزل عليهم السكينة، وتغشاهم الرحمة، ويذكرهم الله فيمن عنده، فهم القوم لا يشقى بهم جليسهم.
فضل العبادة في العشر الأواخر
من المعلوم أَنَّ آخر شهر رمضان أفضله، لأنّه خاتمة العمل والأعمال بخواتيمها؛ لذلك كان رسولنا –صلّى الله عليه وسلّم- يجتهد بالعمل في هذه الأيام المُباركة أكثر من غيرها، كما ورد في الحديث الشريف عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ : (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مَا لا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ)(1)، ومن هذه الأعمال: قيام الليل، وإيقاظ الأهل، وتلاوة القرآن، واعتزال النساء، والإكثار من الصّدقات، والتّضرع والدّعاء لله سبحانه وتعالى، والاعتكاف، كما جاء في الحديث الشريف: (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ)(2 ).
ليلـة القدر خيرٌ من ألف شهر
أخرج الإمام البخاري في صحيحه عن عائشة – رضي الله عنها- أنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- قال: (تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْوِتْرِ مِنْ الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ ) (3) .
إِنَّ ليلة القدر ليلة الشّرف التي وصفها الله سبحانه وتعالى بأنها الليلة المباركة كما جاء في قوله تعالى: {حمٓ * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ}(4)، وقد شرَّف الله سبحانه وتعالى ليلة القدر بنزول القرآن الكريم فيها ، حيث جعل لها سورة كاملة باسمها ، وجعلها خيراً من ألف شهر ، كما حثَّ رسولنا -صلّى الله عليه وسلّم- على قِيامها ، فقال: (مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ )(5)، وقيامها إنما هو إحياؤها بالتّهجد فيها والصلاة والدعاء والابتهال وقراءة القرآن.
وَسُمِّيت ليلةُ القدر ليلةَ القدر، لأنها ذات قَدْر عند الله سبحانه وتعالى وعند رسوله – صلّى الله عليه وسلّم – وعند أُمّة الإسلام جميعاً ، ومن شرفها العظيم أنّ الله خصَّ بها محمداً – صلّى الله عليه وسلّم – وأُمته، وقد أخفى الله ليلة القدر لِحثِّ المؤمنين على الاجتهاد في طلبها وعلى إحيائها بالعبادة والطّاعة، واختلف العلماء في تحديدها، حيث ورد أنّ رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – قال: (تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْوِتْرِ مِنْ الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ )، وقوله –صلّى الله عليه وسلّم - أيضا: (مَنْ كَانَ مُتَحَرِّيَهَا فَلْيَتَحَرَّهَا فِي لَيْلَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ)( 6) .
وإذا هيأ الله للمسلم ليلة القدر فعليه أن يَتَّبعَ ولا يَبْتَدع، وجزى الله نبيّنا خير الجزاء فقد أرشدنا إلى كلّ خير، كما رُوِي عن عائشة – رضي الله عنها – قالت : ( قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ ! إنْ عَلِمْتُ أيّ لَيلةٍ لَيلةَ القَدرِ ما أقولُ فيها؟ قالَ- صلّى الله عليه وسلّم-: قولي: "اللَّهمَّ إنَّكَ عفوٌّ كَريمٌ تُحبُّ العَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي")(7)،فإذا علمتَ هذا الفضل العظيم لتلك الليلة فاحرص على قيام ليالي رمضان ، وهذا لا يمنع ثواب من قام بإحياء غيرها من الليالي، وإنما لهذه الليلة ميزة في الحصول على الثواب الفريد لِمَن قامها.
زكاة الفطر
من المعلوم أنّ زكاة الفطر فُرضتْ في السنة الثانية من الهجرة في رمضان قبل العيد بيومين، كما جاء في الحديث الشريف عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال:( فَرضَ رسولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ، فمَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ)(8).
* حُكم مشروعيتها: شُرعت زكاة الفطر لتطهير الصائم مِمّا يكون قد وقع فيه من اللّغو وفحش القول ونحو ذلك مما لا يليق بالصائم ولا يُفْسد صيامه، ولإغناء الفقراء والمُحتاجين عن السؤال في يوم العيد.
* شروط وجوبها: زكاة الفطر واجبة على كل مسلم قادرٍ على إخراجها سواء أكان صغيراً أم كبيراً، ذكراً أم أنثى، حُرًّا أم عبداً، كما جاء في الحديث الشريف عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما - : (أنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَضَ زَكَاةَ الفِطرِ مِنْ رَمَضَانَ على النَّاسِ صَاعًا مِن تَمرٍ، أوْ صَاعًا مِن شَعِيرٍ، عَلَى كُلِّ حُرٍّ أو عَبدٍ، ذَكَرٍ أو أُنثَى مِنَ المُسلِمِينَ )(9 ).
* وقتها: ووقت وجوبها إدراك جزء من رمضان، وجزء من شوال، ويجوز إخراجها من أَوّل شهر رمضان، وَيُسْتحبّ تأخيرها إلى أواخر الشهر ، والأفضل إخراجها قبل صلاة العيد لِيتمكّن الفقير من شراء ما يحتاجه في العيد لإدخال السرور على عائلته، لقوله – عليه الصّلاة و السّلام- : (أَغْنُوهُمْ في هَذَا الْيَوْمِ)(10).
اللهُمّ اكتبنا من عُتقاء شهر رمضان ، واكتبنا في قوائم الأبرار ، واكتبْ لنا سعَة الحال من الرزق الحلال، ربنا وارفع الإِصْرَ عن أُمَّة حبيبك محمد – صلّى الله عليه وسلّم -، واسْلُكْ بهم صراطك المستقيم ليكونوا من الذين أنعمتَ عليهم، آمين ... آمين ... يا ربّ العالمين.
تقبَّل الله منّا ومنكم الطاعات ، وكلّ عام وأنتم بخير
وصلَّى الله على سيِّدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين
الهوامش: