الحمد لله ربّ العالمين والصَّلاة والسَّلام على رسوله الأمين محمد – صلّى الله عليه وسلّم -، وعلى آله وأصحابه الطَّيبين الطَّاهرين، ومن اقتفى أثرهم وسارَ على دربهم إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ }(1).
جاء في كتاب تفسير القرآن العظيم لابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة: [ {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} أي فسافروا حيث شئتم من أقطارها، وتردّدوا في أقاليمها وأرجائها في أنواع المكاسب والتّجارات، واعلموا أنّ سعيكم لا يُجدي عليكم شيئاً إلا أنْ يُيَسّره الله لكم، ولهذا قال تعالى: {وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ} فالسّعي في السّبب لا يُنافي التّوكل، كما قال رسول الله: "لو أنّكم تتوكّلون على الله حقَّ توكّله لرزقكم كما يرزق الطّير، تغدو خِمَاصاً وتروح بِطَاناً"، فأثبت لها رَوَاحاً وغُدُوًّا لطلب الرّزق مع توكّلها على الله عزَّ وجلَّ، وهو المُسَخّر المُسَيّر المُسَبّب {وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } أي المرجع يوم القيامة، قال ابن عباس ومجاهد: مناكبها: أطرافها وفِجاجها ونواحيها] (2 ).
مرّت بنا قبل أيّام ذكرى يوم العُمّال العالمي، هذه الذّكرى التي تأتي في الأول من شهر مايو ( أيار) من كلّ عام، فالعالم كلّه يحتفل بهذه الذكرى تكريماً للعامل، وإحياءً لذكرى ثورة العُمّال التي قامت في أمريكا عام 1887م أي في أواخر القرن التاسع عشر للميلاد، حيث إِنَّ هذه الثّورة كانت نتيجة للظُّلم الذي يعيشه العُمّال، والظّروف السّيّئة المُحيطة بهم، والأجر الزّهيد الذي يتقاضَوْنه، أمّا العُمّال في المجتمع الإسلامي فكانوا مُنْصَفِين، وكانوا يَحْيَون حياة كريمة طيّبة.
الإسـلام يَحُثُّ على العمل
من المعلوم أَنّ ديننا الإسلامي الحنيف هو دين العمل، يَحُثُّ عليه ويدعو المسلمين إليه، فلا بُدَّ من الحرص على العمل لبناء المجتمع -في شتّى المجالات- وتحصيل الرّزق وقوت الأهل والأبناء، وقد جاءت آيات القرآن الكريم تُؤكّد ذلك، منها:
قوله سبحانه وتعالى: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}(3)، وقوله سبحانه وتعالى أيضاً: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ }.
كما حثَّت السُّنّة النبوية الشّريفة على العمل، وقد جاء ذلك في أحاديث عديدة منها : قوله - صلّى الله عليه وسلّم -: (مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ ،خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبيَّ اللَّهِ دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلام- كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ )(4)، وقوله – صلّى الله عليه وسلّم– أيضاً: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ, لأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ, فَيَحْتَطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ, خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ رَجُلاً فَيَسْأَلَهُ, أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ)(5).
الأمة الإسلامية ... والعمل
إِنَّ الأُمّة الإسلامية –بفضل الله سبحانه وتعالى- تملك من خيرات الله الشيء الكثير، حيث تملك الأرض الخصبة في السّهول والوديان، وتملك الجبال والهضاب، وتملك البحار والبُحَيرات والأنهار العظام، وتملك العيون والآبار، وتملك مخزوناً كبيراً من المياه الجوفية، وتملك مُعظم المعادن التي يحتاجها العالم المعاصر، وتملك أكبر مخزون في العالم من النّفط، كما أنّها تملك أيضاً الأموال والأسواق والعقول المُفكّرة والأيدي العاملة، لذلك يجب على الأُمّة الإسلامية أَنْ تغتنم خيراتها وثرواتها التي وهبها الله سبحانه وتعالى لها أحسن اغتنام، فتعمل على توفير فرص العمل لأبنائها وعُمّالها في جميع المجالات في الزّراعة والصّناعة والتّجارة والصّيد... الخ، كما تعمل على تشجيع البحث العلمي والمُخترعات العلمية التي تعود بالنفع على بلادها، وتُيَسِّر سُبُلَ النّهوض الحضاري والتّقدم العلمي .
الإسلام يحـارب التّسول
لقد حذّر ديننا الإسلامي الحنيف من انتشار ظاهرة التّسول، فَمَنْ فتح على نفسه باب مسألة فتح الله سبحانه وتعالى عليه باب فقر، كما جاء في قوله –صلّى الله عليه وسلّم- : (... وَلا فَتَحَ عَبْدٌ بابَ مَسأَلَةٍ إِلاَّ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ بابَ فَقْرٍ )(6)، فالإسلام نهانا عن التّسول وأمرنا بالابتعاد عنه، كما جاء في قوله– صلّى الله عليه وسلّم-:( لا تَزَالُ الْمَسْأَلَةُ بِأَحَدِكُمْ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَلَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ )(7).
إِنَّ الدّين الذي يقول لك : (وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا ) (8) ، هو الذي يقول لك : {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ }.
الدّين الذي يقول لك : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} (9) ، هو الذي يقول لك: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ }(10) .
لقد أدرك المسلمون الأوائل قيمة العمل فانتشروا في الأرض وعَمَرُوها امتثالاً لأوامر ربهم سبحانه وتعالى وهدي نبيّهم محمد – صلّى الله عليه وسلّم –، فالعمل في الإسلام واجب على كلّ مسلم ، والمجتمع بحاجة إلى كلِّ يَدٍ عاملة مُخلصة تخدم وطنها وَتُسْهم في بنائه، كما أنّ تمام العبادة يكون بالطّاعة والعمل والسّعي إلى اكتساب الرّزق، وليس الانقطاع عن الدّنيا وتركها لغيره حتى يُصبح هو في حاجة وغيره يعيش في خيرٍ ويُسر .
الإيمان والعمل الصالح متلازمان
من المعلوم أَنَّ ديننا الإسلامي يأمرنا بأنْ نُطَبّق إيماننا عملاً وسلوكاً، حيث إِنَّ آيات القرآن الكريم التي تحثُّنا على الإيمان جاءت تحثُّنا بعده مباشرة على العمل، والآيات التي تذكر وصف الإيمان فإِنّها تذكر بعده العمل وتُبيّن جزاء العاملين المُخلصين، فالإيمان والعمل الصّالح متلازمان، والمؤمن لا يعمل إلا صالحاً كما جاء في قوله سبحانه وتعالى : {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً}(11)، ولكي يفوز المسلم بالجنّة لا بُدَُّ أَنْ يسلك سبيل الصّلاح في تصرُّفاته وأعماله كلّها، ومن الجدير بالذكر أَنَّ الإسلام قَدْ صَانَ حقوق العُمّال قبل أَنْ تجعل الدّول المُعاصرة للعُمّال يومًا يحتفلون به، وقبل أَنْ تقوم المُنظّمات الدّولية بالمُطالبة بحقوقهم، فقد قام ديننا الإسلامي الحنيف بذلك قبل خمسة عشر قرناً حيث أعطى توجيهاته للأُمّة بضرورة العمل والحرص على صَوْن حقوق العُمّال، فالإسلام يأمر أبناءه بالمحافظة على أوطانهم وتطوير مجتمعاتهم؛ كي تكون أفضل المجتمعات وأجدر بالحياة وأقدر على النّجاح، وكلّ ما يعين على ذلك فهو واجب، وكما يقول علماء الأصول: "ما لا يتمّ الواجب إلا به فهو واجب"، فالإسلام يحثُّ على العمل وَيُرَغِّب فيه، كما جاء في قول رسولنا – صلّى الله عليه وسلّم-: ( مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلام كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ ).
ولقد اقتدى الصحابة الكرام –رضي الله عنهم أجمعين- برسولهم الكريم- صلّى الله عليه وسلّم-، فلم يركنوا إلى الكسل أو يقعدوا عن طلب الرّزق، بل كانوا جميعاً يعملون، حيث كان أبو بكر الصّديق تاجر قماش، وكان الزّبير بن العوام خيّاطاً، وكان عمرو بن العاص جَزّاراً –رضي الله عنهم أجمعين-، ومن الجدير بالذّكر أَنَّ الإسلام كَفِلَ للعامل حقّه كما جاء في الحديث أَنَّ رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم– قال : ( أَعْطُوا الأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ) (12) ، وَكَفِلَ أيضاً حقّ صاحب العمل كما جاء في الحديث : ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلا أَنْ يُتْقِنَهُ) (13).
العمل شرف
إِنَّ العمل شرف مَهْمَا كان مُتواضعاً، فقد رُوِيَ أنّ أحدَ الوُلاَة مَرَّ على عامل نظافة وهو يكنس الشوارع وينشد قائلاً:
وَأُكْرِمُ نفسي إِنَّني إنْ أَهَنْتُها وَحَقِّكَ لم تُكْرَم على أَحَدٍ بَعْدي
فقال الوالي للعامل: وأيّ إكرامٍ هذا الذي أكرمتَ به نفسك وأنتَ تعمل كَنَّاساً؟! ، فقال له العامل بكلِّ عِزّة: إنَّ عملي هذا أفضل مِنْ أَنْ أقفَ على أبواب اللئام أمثالك يُعْطونني أو يمنعونني.
نعم، إِنَّ العمل شرف والمجتمع لا يستغني عن أيّ عامل مَهْمَا كان عمله، ورحم الله القائل:
النّاسُ للنّاسِ من بَدْوٍ وحاضرةٍ بعضٌ لبعضٍ وإنْ لم يَشْعُروا خَدَمُ
تحيـّة لكلّ يـدٍ تعمل، تحيّة لكلّ صانع في مَصْنَعه و كلّ عامل في عمله، تحيّة لكلّ فلاّح في أرضه وكلّ مُعَلِّم في مدرسته، تحيّة لكلّ طبيب في مشفاه وكلّ مهندس في مُؤَسّسته.
وصلّى الله على سيِّدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين
الهوامش :
1-سورة الملك الآية (15)
2-تفسير القرآن العظيم لابن كثير 4/511
3-سورة التوبة الآية (105)
4- أخرجه البخاري
5- أخرجه البخاري
6- أخرجه أحمد
7- أخرجه البخاري
8- سورة هود الآية (6)
9-سورة الذاريات الآية(56)
10- سورة الجمعة الآية (10)
11- سورة الكهف الآية (107)
12- ذكره السيوطي في الجامع الصغير
13- ذكره السيوطي في الجامع الصغير