الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين محمد – صلّى الله عليه وسلّم -، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، ومن اقتفى أثرهم وسار على دربهم إلى يوم الدين، أما بعد:
يقول الله سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء* تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}(1).
إِنَّ الكلمة الطَّيِّبة مطلوبة في كلِّ المجالات وعلى مستوى كلِّ العلاقات ، كما جاء في قوله – صلّى الله عليه وسلّم-: ( الكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ) (2)، وقوله- عليه الصلاة والسلام- أيضاً: ( اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ)(3)؛ لذلك يجب علينا أَنْ نُكثر من الكلام الطَّيِّب الذي يتفق مع تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف، وأنْ نبتعد عن الكلام السَّـيِّئ المُخالِف لشرعنا وديننا، فمن المعلوم أنّ الكلام السَّـيِّئ يكون سبباً مُباشراً في هلاك صاحبه؛ لقوله – صلّى الله عليه وسلّم-: ( إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ، فَيَكْتُبُ اللَّهُ لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ ، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ، فَيَكْتُبُ اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ) (4 ).
قولوا: لا إله إلا الله تُفلحوا
الكلمة الطَّـيِّبة كما قال ابن عباس–رضي الله عنهما- :"لا إله إلا الله"، وهي التي بَعَثَ الله سبحانه وتعالى بها رُسُلَهُ الكرام–عليهم الصلاة والسلام– ،وأَنْزَلَ سبحانه وتعالى كُتُبَه لهداية الناس إلى الحقِّ؛ طلباً لسعادة الدنيا والنّجاة في الآخرة ، فَفِيها الفوز والفلاح كما جاء في قوله – صلّى الله عليه وسلّم –: (..قُولوا: لا إِلَهَ إلاَّ اللَّهُ، تُفلِحوا...)(5)، فالكلمة الطيِّبة حَوَّلت البشريّة من حالٍ إلى حال ونقلتهم من الظّلمات إلى النّور، ومن عبادة العباد إلى عبادة ربِّ العباد، ومن جَوْر الأديان إلى عدل وسماحة الإسلام، وللكلمة الطَّـيِّبة مكانة عظيمة في ديننا الإسلامي؛ لذلك جاء الهدي النبوي مُعَلِّماً المسلمين ضرورة أنْ يُؤَذَّن في أُذُن المولود اليُمْنى، وأنْ تُقَام الصلاة في أُذُنه اليُسْرى وذلك حين الولادة مباشرة، كما جاء في حديث أبي رافع- رضي الله عنه- قال: (رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَذَّنَ فِي أُذُنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ حِينَ وَلَدَتْهُ فَاطِمَةُ)(6)؛ كي تكون أوّل كلمات تصل إلى مَسَامِعِه هي كلمة التوحيد ، وهي آخر كلمة يقولها المسلم، كما قال– صلّى الله عليه وسلّم–:(مَنْ كَانَ آخِرُ كَلامِهِ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ)(7).
الكلمة الطَّيِّبة ترفعُ قدر صاحبها
إِنَّ الكلمة الطَّيِّبة ترفع قدر صاحبها وَتُعلي شأنه، فهذا الصحابي الجليل بلال – رضي الله عنه – كانت نفسه تهون عليه في الله عزَّ وجلَّ، وكان الذي يتولَّى كِبْرَ تعذيبه أُميّة بن خلف وزبانيته ، فقد كانوا يُلهبون ظهره بالسِّياط، فيقول: أَحَدٌ أَحَدٌ ...، وَيُطْبقون على صدره الصّخور، فيُنادي: أَحَدٌ أَحَدٌ...، ويشتدّون عليه في النَّكال، فيهتفُ : أَحَدٌ أحَدٌ ...
ومن المعلوم أَنَّ بلالاً –رضي الله عنه - رأى محمداً – صلّى الله عليه وسلّم – فأحبّه ، فلما أحبّهُ شهد أَنْ لا إله إلا الله ، وأَنَّ محمداً رسول الله ، وأحبَّ الدين الإسلاميّ الحنيف ؛ لأنه دينُ العدل والمُسَاواة ، دين يكره الرّق ويُحَارب العبوديّة لغير الواحد الأحد ، ويكره الظّلم والظّالمين.
لقد كان بلالٌ – رضي الله عنه – يستعذب التّعذيب في سبيل الله ورسوله، ويُرَدِّد على الدَّوام نشيده العُلْوِيَّ: أَحَدٌ أَحَدٌ...أَحَدٌ أَحَدٌ، فلا يَمَلُّ مِنْ تِرْدَادِهِ ، ولا يشبعُ من إنشاده.
هذا الموقف لبلال – رضي الله عنه - من المواقف المُشَرِّفة له ، والتي أَهَّلَتْهُ ليكون أوَّلَ مُؤَذِّن في الإسلام، كما ورد في كُتُب السّيرة أنّه لمّا دخل – صلّى الله عليه وسلّم – مكّة المكرمة فاتحاً كان معه داعي السّماء بلال بن رباح- رضي الله عنه - ، ولمَّا حانت صلاة الظهر كانت الألوف المُؤَلَّفة تُحيط بالرسول – صلّى الله عليه وسلّم - ، وكان الذين أسلموا من كُفّار قريش يشهدون ذلك المَشْهد الكبير ، عند ذلك دعا الرسول – صلّى الله عليه وسلّم– بلال بن رباح- رضي الله عنه- ، وَأَمَره أنْ يَصْعدَ على ظهر الكعبة ، وأنْ يُعْلِنَ من فوقها كلمة التوحيد، فَصَدَعَ بلالٌ بالأمر ، وأرسل صوته النّديّ بالأذان، فامتدت آلاف الأعناق نحوه تنظر إليه ، وانطلقت آلاف الألسُنِ تُرَدِّدُ وراءه في خشوع .
لقد انتصر المسلمون بقيادة رسولنا – صلّى الله عليه وسلّم– وفتحوا مكّة المكرمة، وها هو بلال الذي كان مُسْتضعفاً مُطَارداً مُعَذَّباً مُهَاناً في مكّة المكرمة، أصبح المُؤَذِّن الأوَّل في الإسلام ، وها هو صوت بلال– رضي الله عنه– يُجَلْجِل في جبال مكّة وهضابها وأوديتها ، يُزلزل الدنيا بـــ : لا إله إلا الله.
وكان بلالٌ– رضي الله عنه – قد امتنع عن الأذان بعد وفاة النبي – صلّى الله عليه وسلّم –، وعندما فتح المسلمون مدينة القدس طالبه أمير المؤمنين عمر – رضي الله عنه – أنْ يرفع الأذان، فاستجاب بلال – رضي الله عنه - وارتفع صوته النديّ بالأذان ، فإذا بأمير المؤمنين عمر – رضي الله عنه – يبكي، ثم بكى الصحابة - رضي الله عنهم أجمعين-، وارتجّ المسجد الأقصى المبارك بالبكاء؛ لتذكّرهم لرسولهم وقائدهم سيِّدنا محمد – صلّى الله عليه وسلّم – .
فبلال بن رباح- رضي الله عنه- اسمٌ يُحبّه المؤمنون ، وصوتٌ تعشقه آذان المسلمين .
أثر الكلمة الطَّيِّبة
أخرج الإمام البخاري في صحيحه(عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-، زَوْجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَاتَ وَأَبُو بَكْرٍ بِالسّنْحِ- قَالَ إِسْمَاعِيلُ: يَعْنِي بِالعَالِيَةِ- فَقَامَ عُمَرُ يَقُولُ: وَاللَّهِ مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَتْ: وَقَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ مَا كَانَ يَقَعُ فِي نَفْسِي إِلا ذَاكَ، وَلَيَبْعَثَنَّهُ اللَّهُ فَلَيَقْطَعَنَّ أَيْدِيَ رِجَالٍ وَأَرْجُلَهُمْ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَكَشَفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَبَّلَهُ، قَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يُذِيقُكَ اللَّهُ المَوْتَتَيْنِ أَبَدًا، ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ: أَيُّهَا الحَالِفُ، عَلَى رِسْلِكَ ، فَلَمَّا تَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ جَلَسَ عُمَرُ، فَحَمِدَ اللَّهَ أَبُو بَكْرٍ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: أَلاَ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لاَ يَمُوتُ، وَقَالَ: { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ }، وَقَالَ: { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} قَالَ: فَنَشَجَ النَّاسُ يَبْكُونَ...)(8).
عند دراستنا للحديث السابق يتبيّن لنا أنّ الكلمة تكون مُؤَثِّرة إذا خرجت من قلب مُؤمن بها ، ويكون لها الأثر السِّحْريّ في نفوس السّامعين وقلوبهم، ولا يكون هذا إلاّ مع الصّبر، فعندما خرجت هذه الكلمات من أبي بكر – رضي الله عنه – كان لها هذا الوقع والأثر الطَّـيِّب في نفوس الصحابة الكرام –رضي الله عنهم- ، وصبرهم لِمَا أصابهم من حَيْرَة واضطراب لوفاة النبي – صلّى الله عليه وسلّم- .
لقد علَّم رسولنا – صلّى الله عليه وسلّم – البشريّة كلّها أثر الكلمة الطيِّبة ، الكلمة الطيِّبة الصادقة الثابتة كالطَّوْدِ الأَشَمّ الذي لا تَهُزُّه عواصف هوجاء ولا رياح عاتية، فيوم أحاطت به الأشرار تُحاول أنْ تُطفئ جذوة الإيمان ، قال- صلّى الله عليه وسلّم - كلمته المشهورة التي طالما اهتزّت لها أعواد المنابر ، ووصل رَنِيِنُها إلى أعماق القلوب ، قال بلسان الحقِّ: (يا عَمّ، واللهِ لَوْ وَضعوا الشَّمسَ في يميني، والقمرَ في يساري، علَى أن أتركَ هذا الأمرَ حتَّى يُظهِرَه اللهُ، أو أَهْلِكَ فيه، ما تركتُهُ) .
الكلمة الطَّيِّبـة تُقرِّب القلوب وَتُطَيِّب النفوس
الكلمة الطَّيِّبة تُطَمْئن النّفس، وَتُؤَلّف بين القلوب، وَتُحَوِّل العدوَّ إلى صديق بإذن الله سبحانه وتعالى، كما تُحَبِّبك إلى الآخرين، فهي مِفْتاح الدعوة والقبول، ومن المعلوم أَنَّ رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم- قد بدأ دعوته بالحكمة والموعظة الحسنة من خلال الكلمة الطَّيِّبة، فها هو – صلّى الله عليه وسلّم– يذهب إلى الطائف لعلَّه يجدُ الأنيس والنّصير، فسَبُّوه وشتموه ورجموه، فجاءه المَلَكُ يعرض عليه أن يُطْبق عليهم الأخشبين، فقال-عليه الصلاة و السلام-:"اللهمَّ اهدِ قومي فإنَّهم لا يعلمون، لعلَّ الله يُخرج مِنْ أصلابهم مَنْ يُوَحِّد الله"، لم يشتمهم ولم يلعنهم، بل دعا الله سبحانه وتعالى أنْ يهديهم، وفعلاً استجاب الله عزَّ وجلَّ دُعاءه، وخرج من صُلْب أبي جهل– عدوّ الله اللّدود – الصحابي الجليل عكرمة-رضي الله عنه- ، وخرج من صُلْب أمية بن خلف– الكافر- الصحابي الجليل صفوان-رضي الله عنه-،وخرج من صُلْب الوليد بن المغيرة– الكافر– سيف الله خالد-رضي الله عنه-.
فعلى الدّاعية أن يُعَامل الناس بلُطْف ، وأن يُرَغِّبهم في دين الله عزَّ وجلَّ بالكلمة الطَّيـِّبة والقُدْوة الصالحة والنّيَّة الخالصة؛ حتَّى يُوفِّقه الله سبحانه وتعالى ويشرح صدور الناس لقبول دعوته بفضله سبحانه وتعالى، فليس المؤمن بطَعَّان ولا لَعَّان ولا فاحش ولا بذيء، كما جاء في الحديث: ( لا يَكُونُ الْمُؤْمِنُ لَعَّانًا )(9).
إِنَّ الواجب علينا جميعاً أَنْ نسير على هدي نبينا – صلّى الله عليه وسلّم- فمن صفات المؤمنين الصادقين أنَّهم مُلتزمون بالكلام الطَّيِّب الحَسَن مع الناس جميعاً، وقولوا للناس حُسْنا.
وصلّى الله على سيّدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين
الهوامش :