الحمد لله ربّ العالمين والصَّلاة والسَّلام على رسوله الأمين محمد – صلّى الله عليه وسلّم -، وعلى آله وأصحابه الطَّيبين الطَّاهرين، ومن اقتفى أثرهم وسارَ على دربهم إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
في مُسْتهلّ كلّ عام هجري تُطَالعنا ذكرى هجرة الرسول محمد-صلّى الله عليه وسلّم-، فَتُشْرق في نفوس الملايين المُسلمة شمسُ الإيمان من جديد، وتتراءى لهم صُوَرُ الكفاح الأغرّ في سبيل الحق والعقيدة ،فكلّ خير أصابه المسلمون، وكلّ رشاد ظفرت به البشرية منذ هاجرت رسالة التوحيد إلى يثرب، إنما كانت ثمرة طيبة من ثمار هذه الهجرة المُباركة، فبعد أن كان المسلمون يعيشون في المجتمع المَكّي تحت صُوَرٍ شَتَّى من الإرهاب والتعذيب صَارَ لهم وطن ودولة وكيان، فالهجرة النبوية لم تكن هَجْراً للأوطان، وإنما كانت تمهيداً لاستعادة الأوطان، ولم تكن تَخَلِّياً عن المُقدسات، وإنما كانت حافزاً للمحافظة على المقدسات، ومن المُناسب في هذه الأيام المباركة أن نقف عند بعض العِبَر والعظات التي نستلهمها من هذه الذكرى الإيمانية العطرة، ومنها :
الهجرة فجرٌ جديد
لقد كانت الهجرة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة تمحيصاً للمؤمنين ، واختباراً صَعْباً اجتازوه بنجاح كبير ، حيث فارقوا أرضهم وديارهم وأهليهم استجابةً لأمرِ الله ،و إعلاء كلمته ، كما كانت الهجرة إلى المدينة المنورة إيذاناً بفجرٍ جديد في تاريخ الدّعوة ، حيث أصبح للإسلام دولة عزيزة الجانب .
فقد كانوا في مكة أفراداً، فصاروا في المدينة دولة، وكانوا في مكة مُضطهدين، فصاروا في المدينة مُكرمين، وكانوا في مكة فاقدي الأمن، فصاروا في المدينة آمنين، وكانوا في مكة لا يردّون عن أنفسهم أَذَىً، فصاروا في المدينة يكيدون مَنْ كادهم، ويُرهبون مَنْ يُعاديهم، وكانوا في مكة يعبدون الله سِراً، فصاروا في المدينة يرفعون الأذان عالياً مُدَوِّياً خمس مرات في اليوم لا يخافون إلا الله– عزَّ وجلَّ-.
هذه هي هجرتهم، تَحَوُّلٌ عظيم صاعد في سماء الدعوة، وعند دراستنا للسيرة النبوية، نجد أنّ الهجرة كانت رحمة من الله لعباده، حيث اشتملت على دروس كثيرة عميقة الدلالة دقيقة المغزى، بعيدة الأثر .
حنين الرسول إلى مكة
هاجر الرسول الكريم- صلّى الله عليه وسلّم- من مكة المكرمة إلى يثرب، وعلَّم الدنيا كلّها حُبّ الأوطان والأماكن المباركة والوفاء لمسقط الرأس عندما ألقى نظرة الوداع على مكة المكرمة وهو مُهَاجِرٌ منها، وقال كلمته الخالدة:(وَاللَّهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ، وَلَوْلا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ)(1)، وكان فراق مكة عزيزاً على الرسول – صلّى الله عليه وسلّم – والصحابة الكرام – رضي الله عنهم أجمعين - كما ذكرت ذلك كُتب السّيرة، فهذا واحد منهم اسمه أصيل جلس يتكلّم عن مكة فقال له النبي – صلّى الله عليه وسلّم -: (يا أصيل دع القلوب تقرّ فلا تذكرنا).
لقد ضرب أبناء شعبنا الفلسطيني أروع الأمثلة في الدفاع عن وطننا الغالي فلسطين، حيث ضَحّوا بالغالي والنفيس في سبيل وطنهم، وتوحَّدوا ووقفوا صفاً واحداً دفاعاً عن فلسطين والقدس والمسجد الأقصى المبارك.
درس التفاؤل والأمل
إننا نتعلّم من ذكرى الهجرة النبوية درس التفاؤل والأمل، فهذا سُراقة بن مالك يلحق بالنبيّ – صلّى الله عليه وسلّم-؛ ليظفر بجائزة قريش مائة من الإبل لمن يأتي برسول الله –صلّى الله عليه وسلّم- حياً أو ميتاً، وعندما لَحِقَ سُراقة بالنبي –عليه الصلاة والسلام-، دعا عليه –صلّى الله عليه وسلّم- فساخت أقدام فرسه في رمال الصحراء، ثم قال له -صلّى الله عليه وسلّم-: "كيف بك يا سُراقة إذا لبستَ سواري كسرى؟!"(2)، وفعلاً عاد سراقة، ما الذي دفع الرسول –صلّى الله عليه وسلّم- إلى هذا القول؟، إنه الإيمان بالله سبحانه وتعالى وثقته بنصره عزَّ وجلَّ له وللمؤمنين، وَقد نَفَّذَ عمر بن الخطاب – رضي الله عنه- عهدَ الرسول –صلّى الله عليه وسلّم –، وأعطى سُراقة سواري كسرى عندما فتح المسلمون بلاد فارس، فعلينا أن نكون دائماً على يقين بنصر الله سبحانه وتعالى، مُتفائلين مهما اشتدّت الخُطوب، فالليل مهما طال فلا بُدَّ من بُزوغ الفجر، وإنّ الفجر لآتٍ بإذن الله سبحانه وتعالى.
هجر المعصية للطاعة
هذا درس آخر نتعلّمه من ذكرى الهجرة المُباركة، وهو هجر المعاصي ومحاربة النفس والشيطان، فهذه الهجرة دائمة في مُختلف الأزمنة والأمكنة، فقد جاء في الحديث: (وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ )(3).
فعلى المسلم أن يهجر المعاصي بجميع أشكالها من ربا، وغيبة، ونميمة، وأكل لأموال الناس بالباطل، وأن يفتح صفحة جديدة مع ربه، وكلّ ما أصاب المسلمين من ذلٍّ وضعف ليس تخلياً من الله عنهم، بل نتيجة حتمية لارتكاب المعاصي "من عرفني وعصاني سلطت عليه من لا يعرفني".
المسجد أساس التوحيد وسبيل الوحدة
من الجدير بالذكر أنّ بناء المسجد كان أول عمل قام به رسولنا -صلّى الله عليه وسلّم- لدى وصوله المدينة المنورة، حيث كان –صلّى الله عليه وسلّم- يُباشر العمل مع أصحابه- رضي الله عنهم أجمعين-، وينقل الحجارة بنفسه ، وكان الصحابة من المهاجرين والأنصار يُنشدون وهم يبنون :
اللهُمَّ لا عيشَ إلا عيش الآخرة فاغفرْ للأنصارِ والمهاجرة
والمسجد هو روح المجتمع الإسلامي، و الرجال الذين يُربون فيه هم الذين يبنون النّهضات ، ويصنعون الحضارات ، وَيُكَوِّنون أرقى المجتمعات ، فالمسجد هو المكان الذي يجتمع فيه أبناء الأمة صباح مساء يذكرون الله سبحانه وتعالى ويعبدونه ، وهو المكان الذي يستوعب أبناء الأمة شيباً وشباباً، رجالاً ونساء ، يقفون بين يدي ربهم كالجسد الواحد، حيث يقول -عليه الصلاة والسلام- : (سَوُّوا صُفُوفَكُمْ فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصُّفُوفِ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلاةِ ) (4)،ويقول –صلّى الله عليه وسلّم- :( أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ وَتَرَاصُّوا فَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي)(5)، ويقول –صلّى الله عليه وسلّم- أيضًا: (أَقِيمُوا الصُّفُوفَ، فَإِنَّمَا تَصُفُّونَ بِصُفُوفِ الْمَلائِكَةِ، وَحَاذُوا بَيْنَ الْمَنَاكِبِ، وَسُدُّوا الْخَلَلَ، وَلِينُوا فِي أَيْدِي إِخْوَانِكُمْ، وَلا تَذَرُوا فُرُجَاتٍ لِلشَّيْطَانِ ، وَمَنْ وَصَلَ صَفًّا وَصَلَهُ اللَّهُ، وَمَنْ قَطَعَ صَفًّا قَطَعَهُ اللَّهُ)(6).
فما أحوج أبناء شعبنا الفلسطيني اليوم إلى المحبّة والتّعاضد والتّكاتف والتّكافل، ليكونوا كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحُمّى .
بين الأمـــس واليـــــوم
فما أحرى أبناء شعبنا الفلسطيني وأمتنا العربية والإسلامية أنْ يتأَسّوا بدروس الهجرة النبوية، وفي مقدمتها: دور أبي بكر- رضي الله عنه- في وفائه، وعليّ – رضي الله عنه- في شجاعته وبلائه، وعبد الله بن أبي بكر- رضي الله عنهما- في دَهَائه، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر – رضي الله عنه - في كِتْمانه، وعائشة وأسماء- رضي الله عنهما- في ثباتهما.
والعبرة الواضحة من الهجرة أنّ الإيمان بالله، والثّبات على الحق، والصّبر على المكاره، كلّ ذلك يستلزم النّصر بإذن الله،فليكن لنا في رحاب الذكرى مَدَدٌ يُوَثِّق صلتنا بالله، ويربط على قلوبنا في معركة المصير، حتى نصون الحَقَّ، ونستردّ الأرض، ونُطَهِّر القدس، ونكون على طريق الحق والإيمان إن شاء الله.
هذه بعض العِبَرِ والدّروس التي ينبغي لنا أن نستلهمها من ذكرى الهجرة النبوية، حيث إنّ ذكرى الهجرة مُتَجَدِّدة مع الزمن، وفيها من الدّروس ما يَتَّفق مع كلّ عصر وزمان ، ففيها عبرة وَعِظَة لِمَنْ كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .
وصلّى الله على سيّدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين
الهوامش :