الحمد لله ربّ العالمين والصَّلاة والسَّلام على رسوله الأمين محمد – صلّى الله عليه وسلّم -، وعلى آله وأصحابه الطَّيبين الطَّاهرين، ومن اقتفى أثرهم وسارَ على دربهم إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}(1).
أعلنت وزارة التربية والتعليم صباح أمس الخميس نتائج امتحانات الثانوية العامة بفلسطين، ونحمد الله سبحانه وتعالى أنْ هَيَّأَ الأسباب ويَسَّرَ الأمور لأبنائنا وبناتنا لتقديم الامتحانات، رغم الظروف الصّعبة التي يعيشها شعبنا الفلسطيني، فهنيئاً لشعبنا الفلسطيني المُرابط بهذا الإنجاز الكبير، والذي يدلّ دلالة واضحة على مدى حُبِّ شعبنا للتعليم، وحرصه على استمرار مسيرته .
وبهذه المناسبة السّعيدة يَسُرُّني أنْ أتقدّم بأصدق التهاني والتبريكات لأبنائنا الناجحين في امتحانات الثانوية العامة، وأقول لهم: أنتم الآن على أبواب مرحلة جديدة، تحتاج منكم إلى الجدِّ والاجتهاد والمُواظبة، حتى يرسم كلّ واحد منكم مُسْتقبله حسب قُدراته؛ ليكون له دور فاعل في بناء وطنه، وَيُسْهِم في تقدُّمه وازدهاره، فأنتم أيها الشباب عِمَاد الأُمّة وسِرُّ نهضتها ومبعثُ عِزّتها وحضارتها، ونتوجّه بالتحية والتقدير للأهالي الكرام الذين لم يدّخروا وُسْعاً في توفير الأجواء المُناسبة لأبنائهم؛ كي يُواصلوا دراستهم وَيُقدّموا امتحاناتهم بنجاح، كما نُشيد بدور أُسْرة وزارة التربية والتعليم التي بذلت قصارى جهدها من أجل إكمال العام الدراسي، وهَيَّأتْ كلّ السُّبل أمام أبنائنا الطلاب لتقديم امتحانات الثانوية العامة، إلى أن تَمَّ الإعلان عن نتائجها والحمد لله.
فضل العلم والعلماء
إِنَّ ديننا الإسلامي يُشَجِّع على العلم، ويُكَرِّم العلماء، ويرفع درجاتهم، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)(2)، وجاءت الأحاديث النبوية الشريفة تُؤكّد ذلك، منها قوله – صلَّى الله عليه وسلَّم-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالأَرَضِينَ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ)(3).
من المعلوم أنّ بلادنا فلسطين أرض العلماء، فَكَمْ مِنْ عَالمٍ وُلِدَ على ثراها، أو تَرَعْرَعَ في أَزِقَّتها، أو زارها، أو دُفن فيها، ففلسطين من أزخر البلاد الإسلامية بالعلماء الذين ملأوا طِبَاق الأرض عِلْماً، واستنار بعلمهم الكثير من أبناء الأمتين العربية والإسلامية.
ونحن في فلسطين أصحاب أعدل قضية في العالم ، نحرص على التَّمَسُّك بالعلم؛ لأنه هو السّبيل إلى تحرير أرضنا و المحافظة على مُقَدّساتنا واستعادة كامل حُقوقنا، فبالعلم ترتقي الأُمم، وبالعلم يحيا الإنسان، وبالعلم تتطوّر الشعوب، وبالعلم ينتصر الحقّ على الباطل، وبالعلم ينتصر المظلوم على الظالم؛ لأنّ العلم نور، والله نور السموات والأرض.
فضل شهر الْمُحَرَّم
من المعلوم أنّه لا يوجد شهرٌ من الشهور يُسَمَّى شهر الله إلا هذا الشهر الكريم، شهر الْمُحَرَّم، وهو من الأشهر الحُرُم ، وهذه النّسبة نسبة تكريم وتشريف كبيت الله الحرام، فقد جاء في الحديث الشريف: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : ( أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ، وَأَفْضَلُ الصَّلاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلاةُ اللَّيْلِ) (4).
الهجرة النبوية ... حَدَث غيَّر مَجرى التاريخ
تدور الأيام وتمضي الشهور وتتقلَّبُ الأعوام وهذه سُنّةُ الله سبحانه وتعالى في خلقه، ولكنْ عندما يأتي شهر الله المُحَرَّم يتذكّر المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها حادثة الهجرة التي غيَّرت مجرى التاريخ، لأنها كانت بمثابة النّور الذي هدم أركان الظّلام ورسم على الدنيا صُورة مُضيئة مُشرقة الوجه بَسَّامَة المُحَيَّا، ومن المعلوم أنّ لكلّ أُمّة من الأُمم أمجادها وتاريخها العريق الذي تَشْرُفُ به وتعتز ، ومن أعظم هذه الأمجاد وأعلاها قدراً حادثة الهجرة النبوية الشريفة التي كانت درساً عملياً للعالم أجمع في كلّ زمان ومكان، لِمَا ترتّب عليها من آثار طيبة ونتائج عظيمة، ورحم الله القائل:
إذا قامت الدنيا تَعُدُّ مفاخراً فتاريخُنا الوَضَّاءُ من الهجرة ابتدا
فضل صيام عاشوراء
في هذا الشهر الكريم يوجد يومٌ عظيمٌ من أيام الله وهو أعظم أيام هذا الشهر ، ألا وهو يوم عاشوراء ، فعن أبي قتادة الأنصاري – رضي الله عنه- أنّ رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم- قال : (...وصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ) (5)، ومِمَّا يدلّ على فضل صيامه ما رُويَ عَن ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ : (مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتَحَرَّى صِيَامَ يَوْمٍ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ إِلا هَذَا الْيَوْمَ - يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَهَذَا الشَّهْرَ يَعْنِي: شَهْرَ رَمَضَانَ ) (6) .
سبب صيام عاشوراء
يوم عاشوراء هو اليوم الذي أَنْجَى الله فيه موسى- عليه السلام- وقومه ، وأغرق فرعون وقومه ، فكان اليهود يصومونه شُكراً لله على هذه النّعمة العظيمة ، فالله سبحانه وتعالى أنجى عباده المؤمنين وأعزَّهم، وأهلك أعداءه المُجرمين وأذلَّهم، فهذه نعمة عظيمة، كما جاء في الحديث الشريف: عَن ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا – قَاَل: (قَدِمَ رَسولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ- المَدِينَةَ، فَوَجَدَ اليَهُودَ يَصُومُونَ يَومَ عَاشُورَاءَ فَسُئِلُوا عن ذلكَ؟ فَقالوا: هذا اليَوْمُ الذي أَظْهَرَ اللَّهُ فيه مُوسَى وَبَنِي إسْرَائِيلَ علَى فِرْعَوْنَ، فَنَحْنُ نَصُومُهُ تَعْظِيمًا له، فَقالَ النبيُّ -صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ-: نَحْنُ أَوْلَى بمُوسَى مِنكُم، فأمَرَ بصَوْمِهِ) (7 )، وقوله – صلّى الله عليه وسلّم-: " نَحْنُ َأَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ "، لماذا؟ لأنَّ النبيَّ - صلّى الله عليه وسلّم- والذين معه أولى الناس بالأنبياء السابقين–عليهم الصلاة والسلام- كما جاء في قوله سبحانه وتعالى : {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ}(8) .
مراتب صومه
قال الإمام ابن القيم في كتابه (زاد المعاد في هدي خير العباد): (فمراتب صومه ثلاثة، أكملها: أن يُصام قبله يوم وبعده يوم، ويلي ذلك: أن يُصَام التاسع والعاشر، وعليه أكثر الأحاديث، ويلي ذلك إفراد العاشر وحده بالصوم)(9).
فهناك من يصوم التاسع والعاشر لِمَا ورد عن ابن عبّاس -رضي الله عنهما- قال: (حِينَ صَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ يَوْمٌ يُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ-إِنْ شَاءَ اللَّهُ-صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ)،قَالَ:( فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِلُ حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-) (10).
ما أحوجنا في مثل هذه الأيام أن نحمدَ الله عزَّ وجلَّ على ما وَفَّقنا إليه من صالح الأعمال، فالفضل كلّه لله سبحانه وتعالى وحده، أنْ هدانا إلى الطريق القويم والصّراط المُسْتقيم،{الْحَمْدُ لِلّهِ
الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ} (11).
وصلّى الله على سيّدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين
الهوامش :
1- سورة الزمر الآية (9)
2- سورة المجادلة الآية(11)
3- أخرجه الترمذي
4- أخرجه مسلم
5- أخرجه مسلم
6- أخرجه البخاري
7- أخرجه مسلم
8- سورة آل عمران الآية (68)
9- زاد المعاد في هدي خير العباد للإمام ابن القيم 1/349
10- أخرجه مسلم
11- سورة الأعراف الآية (43)