الخطبة الأولى:
أيها المسلمون :
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم :{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}.
إِنَّ المسجد الأقصى مُبَاركٌ في ذاته مُبَاركة الأرض التي حوله، وهي أرض فلسطين، وَسِرّ هذه البركة أَنَّ تلك الأرض هي مَهْبِط الرّسالات السّماوية، ومهد الكثير من الأنبياء والمُرسلين- عليهم الصّلاة والسّلام-، وأفضلها " القدس" حيث المسجد الأقصى أولى القبلتين، وثاني المسجدين، وثالث الحرمين الشريفين، ومسرى نبيّنا محمد – صلّى الله عليه وسلّم- ومعراجه، ويذكر الإمام الألوسي في تفسيره سبب هذه البركة حيث يقول: ووصفها بعموم البركة لأَنَّ أكثر الأنبياء – عليهم السّلام- بُعثوا فيها، وانتشرت في العالم شرائعهم التي هي مبادئ الكمالات والخيرات الدينية والدنيوية.
أيها المسلمون :
من المعلوم أَنَّ للمسجد الأقصى المبارك مكانة عظيمة في قلوب العرب والمسلمين، وتعميقاً لقيمته في قلوبهم، فقد ضاعف الله سبحانه وتعالى فيه أجر الصَّلاة، فقد جاء في الحديث عَنْ أَبِي ذَرٍّ– رضي الله عنه- قَالَ: (تَذَاكَرْنَا وَنَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أَيُّهُمَا أَفْضَلُ: مَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو مَسْجدُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ؟، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: صَلاةٌ فِي مَسْجِدِي هذا أَفْضَلُ مِنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ فِيه،ِ وَلَنِعْمَ الْمُصَلَّى, ... )، ويدلّ الحديث السابق على أنّ الصلاة في مسجد النبي- صلّى الله عليه وسلّم – كأربع صلوات في المسجد الأقصى، فالصلاة في المسجد الأقصى تعدل مائتين وخمسين صلاة فيما سواه من المساجد، عدا المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف.
وجاء في حديث آخر: (الصَّلاةُ فِي المَسْجِدِ الحَرَامِ بِمَائَةِ أَلْفِ صَلاَةٍ، والصَّلاةُ فِي مَسْجِدِي بِأَلْفِِ صَلاَةٍ، والصّلاةُ فِي بَيْتِ المَقْدِسِ بِخَمْسِمائَةِ صَلاةٍ)، كما ورد من حديث مُطَوّل( ...، يَا رَسُوَلَ اللهِ، أَفْتِناَ فِي بَيْتِ الْمَقِدْسِ، قَالَ: (أَرْضُ الْمَحْشَر ِوالْمَنْشَر، ائْتُوهُ فَصَلُّوا فيِه، فَإِنَّ صَلاَةً فِيِه كَأَلْف صَلاَة فِي غَيْرِهِ،...).
أيها المسلمون :
لقد جمع الله سبحانه وتعالى الأنبياء والمُرسلين –عليهم الصلاة والسلام- في المسجد الأقصى المبارك، حيث صَلَّى بهم رسولنا محمد –صلّى الله عليه وسلّم- إمامًا في ليلة الإسراء والمعراج، فهو نهاية رحلة الإسراء وبداية رحلة المعراج، وهذه الرحلة المُعجزة أكبر شاهدٍ على مكانة المسجد الأقصى المُبارك وأهميته الدينية لدى المسلمين، وفي جَنَبات المسجد الأقصى المُبارك رفع الصحابي الجليل بلال بن رباح –رضي الله عنه- الأذان بصوته النّدي، وفي ظِلّ هذا البيت دُفِن العديد من الصّحابة الكرام، وعلى رأسهم عُبادة بن الصامت أوّل قاضٍ للإسلام في بيت المقدس، وشدّاد بن أوس ، وغيرهما من عشرات الصّحابة –رضي الله عنهم أجمعين-، وما من شِبْرٍ من أرضه إلاّ وشهد ملحمة أو بطولة تحكي لنا مَجْداً من أمجاد المسلمين.
وعند زيارتنا للمسجد الأقصى المبارك نجد أَنَّ كلّ رُكْن في المسجد ينطق بماضٍ للإسلام غالٍ عريق: إلى هنا جاء عمر بن الخطاب، وأبو عبيدة عامر بن الجراح، وخالد بن الوليد، وسعد بن أبي وقاص، وعُبادة بن الصّامت، ومُعَاذ بن جبل، وسلمان الفارسي وغيرهم من الصّحابة الكرام- رضي الله عنهم أجمعين-، وهنا علّم شدّاد بن أوس-رضي الله عنه- "مُعَلِّم هذه الأُمّة"، وهنا قضى عبادة بن الصامت– رضي الله عنه – بين الناس، وهنا نُودِي بمعاوية بن أبي سفيان-رضي الله عنه- خليفة للمسلمين.
وإلى هذه الرّحاب الطّاهرة جاء أئمة العلم يعظون ويُدَرّسون ويتعبّدون: الإمام الأوزاعي فقيه أهل الشام، وسفيان الثوري إمام أهل العراق ، واللّيث بن سعد إمام مصر، ومحمد بن إدريس الشّافعي مُؤسّس المذهب الشّافعي، وحُجّة الإسلام الإمام الغزالي الذي ألّف كُتُباً في المدينة المُقدسة بعد أن آثر البقاء فيها وَمُجَاورة مسجدها الأقصى، ومن بين مُؤلفاته بها كتاب "إحياء علوم الدّين" ، والذي قال عنه علماء عصره ومَنْ تبعهم من العلماء: "مَنْ لم يقرأ الإحياء فليس مِنَ الأحياء", وقد ألّفه تحت قُبّة في ساحات المسجد تُسمّى اليوم بالقُبّة الغزالية.
هذا المسجد كان جامعة إسلامية كبرى امتلأت ساحاته بآلاف الطّلاب من كلّ مكان، وكان مُرْتاد العُبّاد والزُّهّاد من كلّ بقاع الأرض.
أيها المسلمون :
إِنَّ المسجد الأقصى المبارك يَئِنّ ويزداد أَنِينهُ يوماً بعد يوم، لِمَا يتعرّض له من تدنيس واعتداءات واقتحامات لِبَاحَاتِه بقيادة كبار قادة الاحتلال الإسرائيلي والمُستوطنين المُتطرفين، حيث إِنّ الأوضاع الحالية التي يمرّ بها المسجد الأقصى المبارك قد وصلت إلى مراحل خطيرة وغير مسبوقة من خلال تكثيف الاقتحامات المُتكررة التي يتخلّلها تأدية طقوس تلمودية، وسجود مَلْحَمِي، ورفع للأعلام، ونفخٍ للبوق؛ تمهيداً لتنفيذ مُخطّطاتهم الإجرامية بالتقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى المبارك، وما يجري في المسجد الأقصى المبارك في هذه الأيام يُعَدُّ استباحة مُبرمجة من قبل قوات الاحتلال التي تستهدف تجفيف الوجود الإسلامي في المسجد الأقصى، من خلال منع المُصلين والمُرابطين من الوصول إليه، وَسَعْيهم لفرض السّيادة الإسرائيلية عليه؛ تمهيدًا لإقامة ما يُسَمَّى بالهيكل المزعوم على أنقاضه لا سمح الله، وما الحفريات الإسرائيلية المُدَمِّرة والأنفاق المُتَعَدِّدَة التي تَسَبَّبَتْ في تقويض بُنيانه وزعزعة أركانه عنّا ببعيد، فجميع المُحاولات التي تقوم بها سلطات الاحتلال لفرض أمرٍ واقعٍ في المسجد الأقصى لن تنجح إِنْ شاء الله في تغيير الحقائق وطمس المعالم.
إِنّ هذه المُمَارسات والاقتحامات من قبل المستوطنين المُتطرفين سَتُقابل بمزيد من الرّباط والصّمود والثبات من أهلنا في المدينة المُقدسة، فأبناء المدينة المُقدسة وأهلنا في الداخل الفلسطيني أثبتوا وما زالوا يُثبتون في كلّ يوم أنهم صَمَّام الأمان الحامي للقدس والمسجد الأقصى، كما أننا نُؤَكّد على أنّ المسجد الأقصى المبارك مسجد إسلامي بقرار رباني، وهو مِلْكٌ خالص للمسلمين وحدهم بمساحته البالغة (144) دونماً وليس لغير المسلمين حقٌّ فيه، وهو جزء من عقيدتنا الإسلامية.
أيها المسلمون :
إِنّ شعبنا الفلسطيني يتطلّع إلى تحقيق الوحدة الفلسطينية وإنهاء الانقسام، وفتح صفحة جديدة من الأُخوة والمحبّة، فوحدة أبناء شعبنا فريضة شرعية وضرورة وطنية، فليس هناك بعد تقوى الله– عَزَّ وَجَلَّ- أنفع لنا من جمع الشمل ورصّ الصفوف، وليس هناك أشدّ ضرراً علينا من الفُرقة والاختلاف، حيث إِنّ الاحتلال الإسرائيلي لا يُفَرِّق بين أبناء شعبنا المُرابط، فالجميع مُسْتَهدف من قبل المُحتلين.
لذا فإنّ الواجب علينا أن نُوَحِّد كلمتنا، ونرصَّ صفوفنا؛ لنستعيد وحدتنا التي فيها سِرُّ قوتنا وعزّتنا وكرامتنا، ونتصدّى جميعاً للهجمة الإجرامية على مدينة القدس والمسجد الأقصى المبارك قبلة المسلمين الأولى ومسرى نبينا محمد – صلّى الله عليه وسلّم -، ونعمل معاً وسوياً على إقامة الدولة الفلسطينية المُستقلة وعاصمتها القدس الشريف إن شاء الله، وخروج جميع الأسرى والمعتقلين من سجون الاحتلال، وعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى وطنهم إن شاء الله .
وعلينا أنْ نتضرّعَ جميعاً إلى الله بالدّعاء، بأن يحمي شعبنا ومقدساتنا من كلّ سوء، وأن يرحم شهداءنا، ويشفي جرحانا، ويُعَجِّل بالحرية لأسرانا، ويكشف الغُمَّة عن وطننا الغالي فلسطين... آمين ... يا ربّ العالمين .
ادعوا الله وأنتم مُوقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين استغفروا الله ....
الخطبة الثانية :
أيها المسلمون :
إِنَّ نعمة الوقت من أعظم نِعَمِ الله سبحانه وتعالى على ابن آدم، ومن المعلوم أنّ أبناءنا يقضون في هذه الأيام إجازتهم الصّيفية التي تستمر لمدة ثلاثة أشهر ، لذلك يجب عليهم أن يستفيدوا من أوقاتهم، وألا يُفرّطُوا فيها، فالوقت هو العُمر، والعُمر هو الفرصة الغالية التي ينبغي عدم التفريط فيها.
ومن المعلوم أنّ الوقت هو الحياة، فمن أضاع الوقت فقد أضاع حياته، لذلك فقد وضع الإسلام منهجاً مُتكاملاً في حُسن تنظيم الوقت واغتنامه فيما ينفع الفرد والمجتمع، فالله سبحانه وتعالى خلق الإنسان من أجل هدفٍ سامٍ هو عبادته سبحانه وتعالى وطاعته، والسّير على طريق الحقّ والخير: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ)، إذاً فالواجب علينا أن نغتنم كلّ لحظة ودقيقة في طاعة الله قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال.
أيها المسلمون :
إِنَّ الواجب عليكم أيها الأبناء أن تحرصوا على اغتنام أوقات الفراغ فيما يعود عليكم وعلى وطنكم بالخير والنّفع، فخير الناس أنفعهم للناس، وأحبّهم إلى الله سبحانه وتعالى أنفعهم لعباده، كما جاء في الحديث الشريف أنّ رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم- قال: ( اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: حَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَشَبَابَكَ قَبْلَ هَرمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ).
فها أنتم أيها الأبناء تعيشون إجازتكم الصيفية، فإياكم وعدم الاستفادة من وقت الفراغ ، فهو إذا لم يُستغل بما ينفعكم يكون سبباً للانحراف والضّلال، كما قال الشاعر :
إِنَّ الشَّبَابَ والفَرَاغَ والجِدَة مَفْسَدَةٌ لِلْمَرْءِ أيُّ مَفْسَدَة
وعليكم أن تغتنموا هذه الإجازة الصيفية بكلّ نافع ومُفيد في الدّين والدّنيا، فقد هيَّأ الله سبحانه وتعالى لكم قنوات عِدّة تغتنمون فيها أوقات فراغكم وتعملون على تنمية قُدراتكم ومهاراتكم ومعارفكم وإيمانكم وطاعتكم وعبادتكم ، منها: مراكز تحفيظ القرآن الكريم المُنتشرة في ربوع الوطن، والدّروس العلمية والثقافية ، والدّورات التدريبية ، والأندية الرياضية ، والاشتراك في تعلّم اللغات والحاسوب، والمراكز الصيفية التي يُشرف عليها أساتذة ومُرَبّون أخيار يعملون على إشغال أوقات فراغكم بما يعود عليكم بالنّفع والفائدة في دينكم ودنياكم.
لذلك فإننا نتوجه لأولياء الأُمور بضرورة اغتنام الإجازة الصيفية من خلال حَث ِّ أبنائهم وبناتهم على الالتحاق بمراكز تحفيظ القرآن الكريم، وكذلك الالتحاق بالمراكز الثقافية، والدّورات العلمية، كتعلّم اللغات ، والحاسوب، والرياضة ، والإسعافات الأولية، والأعمال النّسائية .
إنَّ الأُمم الراقية تغتنم وقتها أحسن الاغتنام في الخير، وفي المُخترعات العلمية التي تعود بالخير على البشرية، وفي سبيل النهوض بحياة الأمم والشعوب، ومن المعلوم أنّ المسلمين الأوائل قد اغتنموا أعمارهم في الخير، فكانوا العلماء النّابغين الأفذاذ الذين طَأْطَأَ لهمُ الشرق والغرب إجلالاً واحتراماً في شتّى المجالات.
إننا مُطالبون أفراداً وجماعات، ومُؤسسات، أن نتقي الله في أعمارنا ،وأن نغتنم أوقات فراغنا، وأن نُكثر من أفعال الخير، وننأى بأنفسنا وأهلينا وأبنائنا عن طريق الشرّ والضلال.
نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يحفظ شعبنا والقدس والأقصى والمقدسات من كلّ سوء
وصلّى الله على سيّدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
الدعاء.....