الحمد لله ربّ العالمين والصَّلاة والسَّلام على رسوله الأمين محمد – صلّى الله عليه وسلّم -، وعلى آله وأصحابه الطَّيبين الطَّاهرين، ومن اقتفى أثرهم وسارَ على دربهم إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
أخرج الإمام البخاري في صحيحه عنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ- رضي الله عنه - عَن النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ : (" أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ هَكَذَا" وَقَالَ بِإِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى) (1 ) .
هذا حديث صحيح أخرجه الإمام البخاري في صحيحه في كتاب الأدب، باب فضل مَنْ يَعُولُ يتيماً .
من المعلوم أنَّ ديننا الإسلاميّ الحنيف قد اهتمّ باليتيم اهتماماً كبيراً، وأجزل الثواب لِمَنْ يتولَّى كفالته، وَيُحْسِن مُعَاملته وتربيته وتأديبه، ويعمل على توفير ما يحتاجه من طعام وشراب وكساء وتعليم ورعاية، فنحن أُمّةٌ ذات رسالة، حملنا الإسلام منذ قرون طويلة، وَطَبَّقنا أحكامه، فانتشر التّكافل والتّعاون والأمان والتّكاتف بين أبناء المجتمع الإسلامي على مَرِّ العصور.
وينبغي علينا جميعاً توعية مجتمعنا بحقوق الأيتام وأَوْجُهِ رعايتهم من خلال المُؤسّسات الخيرية والتربوية، ووجوب قيام أفراد المجتمع بواجبهم تجاه رعاية الأيتام قولاً وعملاً في ضوء ما جاء به التّشريع الإسلامي، و ضرورة العمل على توفير الرّعاية التربوية والتعليمية لهم في جميع مُؤسّسات التعليم، وأن نعمل سويًّا على تأمين الحياة الاقتصادية للأيتام في جميع المُؤسّسات الخيرية من خلال تفعيل آليات التّكافل الاجتماعي بين المسلمين واستثمارها في مجال رعاية الأيتام والعناية بهم .
الحث على كفالة الأيتام والإحسان إليهم
إِنَّ الأيتام يحظون باهتمام كبير في ديننا الإسلامي الحنيف، حيث نرى ذلك واضحاً من خلال القرآن الكريم والسُّنَّة النّبوية الشّريفة، فقد حثّ القرآن الكريم على الاهتمام باليتيم وَحُسْن رعايته في ثلاث وعشرين آية، كلّها تُؤَكّد حقَّه ووجوب رعايته والعناية به، منها:
* وقوله سبحانه وتعالى : {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بهِ شَيْئًا وَبالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بالجَنبِ وَابْنِ السَّبيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا}(3).
* وقوله سبحانه وتعالى:{ لَّيْسَ الْبرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبرَّ مَنْ آمَنَ باللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى...}(4).
كما حثَّت السُّنَّة النّبوية الشريفة على رعاية الأيتام والعناية بهم في عددٍ من الأحاديث الشريفة، منها:
* عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ( "كَافِلُ الْيَتِيمِ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ، أَنَا وَهُوَ كَهَاتَيْنِ فِي الْجَنَّةِ" وَأَشَارَ مَالِكٌ بالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى) (5).
* وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ – رضي الله عنهما – قَال:َ( قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ عَالَ ثَلاثَةً مِنْ الأَيْتَامِ كَانَ كَمَنْ قَامَ لَيْلَهُ وَصَامَ نَهَارَهُ، وَغَدَا وَرَاحَ شَاهِرًا سَيْفَهُ فِي سَبيلِ اللَّهِ، وَكُنْتُ أَنَا وَهُوَ فِي الْجَنَّةِ أَخَوَيْنِ كَهَاتَيْنِ، أُخْتَانِ" وَأَلْصَقَ إِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةَ وَالْوُسْطَى) (6) .
* وأتى النبِيَّ – صلّى الله عليه وسلّم – رجلٌ يشكو قسوة قلبه ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : (أَتُحِبُّ أَنْ يَلِينَ قَلْبُكَ ، وَتُدْرِكَ حَاجَتَكَ ؟ ارْحَم الْيَتِيمَ، وَامْسَحْ رَأْسه، وَأَطْعِمْهُ مِنْ طَعَامِكَ، يَلِنْ قَلْبُكَ، وَتُدْرِكْ حَاجَتَكَ ) ( 7) .
فضل كفالــة الأيتام
اليُتْمُ كلمة لها أثرٌ في النّفس، فاليُتْم بُؤس وروعة...هو بُؤس؛ لأنه يحرم الطفل وهو في مُقْتبل العُمر من أكثر القلوب حنانًا وعطفًا عليه، وهو رائع؛ لأنّ الله عزّ وجلّ اختاره لخير خلقه، وخاتم رُسله–صلّى الله عليه وسلّم –، فقد جعل الله سبحانه وتعالى اليُتْم له مَهْداً، وحين كان أترابه يلوذون بآباءٍ لهم ويمرحون بين أيديهم، كان -عليه الصلاة والسلام- يُقَلِّب وجهه، لم يقل يا أبي قطّ ، لأنه لم يكن له وقتئذ أبٌ يدعوه، فقد تُوفّى أبوه وهو ما زال جنيناً في بطن أُمّه، وَتُوفيت أُمّه وهو فتى صغير ، وَتُوفى جَدّه وهو في الثامنة من عمره، وكفله عمّه أبو طالب، وما زال- صلى الله عليه وسلم - ينشأ ويترعرع حتى إذا بلغ أَشُدَّه أوحى الله سبحانه وتعالى إليه، وَشَرَّفه بحمل خاتم الرسالات، هذه الرسالة التي أخرجت البشرية من الظّلمات إلى النّور، فصلوات الله وسلامه عليه.
إِنَّ كفالة اليتيم من أفضل الأعمال الصّالحة وأجلّها وأعظمها أجراً، فضلها دائم لا ينقطع بإذن الله تبارك وتعالى؛ لأنَّ اليتيم من أكثر الناس حاجة لمن يكفله ويرعاه ويمدّ له يَدَ العون والمساعدة، كما أنَّ كفالة اليتيم استثمار لحياة إنسان فقد مُعِيلَهُ -أباه أو أمّه أو كليهما-، وكلّ ما يقوم به اليتيم المكفول من عمل صالح في حياته أو ما يُخلفه من أثرٍ لعمل صالح بعد وفاته، هو في ميزان حسنات مَنْ كَفِلَه ويقع أجره عليه، ولذلك فهو من أعظم الأعمال عند الله سبحانه وتعالى.
ومن المعلوم أَنَّ لِمَنْ يَكْفُل الأيتام ويرعاهم ويعتني بهم ويُحْسن إليهم منزلة عظيمة في الإسلام، كما جاء في الحديث الشريف عنْ سَهْل بْنَ سَعْدٍ- رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ( "وأَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ هَكَذَا"، وَأَشَارَ بالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى، وَفَرَّجَ بَيْنَهُمَا شَيْئًا)، فرسولنا – صلّى الله عليه وسلّم- يُبيّن لنا في هذا الحديث الشريف سُمُوَّ منزلة كافل اليتيم في القُرْب من منزلته –صلّى الله عليه وسلّم – في الجَنّة، كَقُرْب السَّبَّابة من الوسطى في أصابع اليد الواحدة، وليس هناك جزاء أفضل لِمَنْ يعمل بهذا الحديث أَنْ يكون رفيقاً لرسول – صلّى الله عليه وسلّم- في الجنة، ولا منزلة في الآخرة أفضل من ذلك.
وقد ذكر الإمام ابن حجر العسقلاني في كتابه فتح الباري بشرح صحيح البخاري في شرح حديث : (أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ هَكَذَا...) أنَّ كافل اليتيم هو القَيِّم بأمره ومصالحه (8).
نـداء إلى أهل الخيـر والبرِّ
لقد أعدَّ الله سبحانه وتعالى الأجر الكبير والثواب العظيم لكافل اليتيم؛ لذلك فإننا نُوَجّه نداءً إلى الأيدي الخَيِّرة والقلوب الرحيمة والأنفس المِعْطاءة والجمعيات والمؤسسات الخيرية؛ ليساعدوا إخوة لهم كي يعيشوا حياة كريمة: { إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ}(9).
إِنَّ كفالة الأيتام من أفضل الأعمال، كما ورد في الأحاديث الشريفة عن رسولنا – صلّى الله عليه وسلّم -، منها: قوله – عليه الصّلاة والسّلام- : (وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ، لا يُعَذِّبُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ رَحِمَ الْيَتِيمَ، وَلانَ لَهُ فِي الْكَلامِ، وَرَحِمَ يُتْمَهُ وَضَعْفَهُ...)(10).
فأين نحن من رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم- إذا لم نكفل الأيتام ؟! وإلى مَنْ نَدَعْ ذلك الطّفل اليتيم الذي فقد أباه أو أُمَّه أو والديه كليهما ؟! فَمَنْ سَيُحِيطه بالعطف والحنان والشّفقة والإحسان؟! وَمَنْ لأولئك الأيتام الذين فَقَدُوا مُعِيليهم؟؛ لذلك يجب أنّ تتكاتف جميع الأيدي الرحيمة للإحاطة بأولئك اليتامى كي يُعَوِّضوهم عَمَّا فقدوه من حَنَانِ الوالدين.
تعالوا أيّها الأخوة الكرام لِنُعلنها صريحة مُدَوّية:
تعالوا لنمسح رأس يتيم.
تعالوا لِنُدخل السّرور على قلب طفل يتيم.
تعالوا لِنُرَتِّلَ سَوِيًّا قول الله تعالى : {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ } .
أملي أن نستجيب... فما زال حديث رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- يتردّد على مسامعنا: (أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ هَكَذَا، وَأَشَارَ بالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى).
وصلّى الله على سيّدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين
الهوامش :