2023-09-22

عنايــة الإســلام بالمبدعيــن


2023-09-08

الحمد لله ربّ العالمين والصَّلاة والسَّلام على رسوله الأمين محمد – صلّى الله عليه وسلّم -، وعلى آله وأصحابه الطَّيبين الطَّاهرين، ومن اقتفى أثرهم وسارَ على دربهم إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم :{يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ} (1).

 جاء في كتاب صفوة التفاسير للصابوني في تفسير هذه الآية الكريمة: ({يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ} أي يُعطي العلم النّافع المُؤدي إِلى العمل الصّالح مَنْ شاء من عباده، {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} أي من أُعطي الحكمة فقد أُعطي الخير الكثير لمصير صاحبها إلى السّعادة الأبدية، {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب} أي ما يتّعظ بأمثال القرآن وَحِكَمِه إِلا أصحاب العقول النَّيِّرة الخالصة من الهوى)(2).

من المعلوم أَنَّ اهتمام الإسلام بالموهوبين والمُبدعين يأتي انطلاقاً من إدراكه بأنَّ الثّروة البشرية هي الثّروة الحقيقية  للأُمَّة، وأَنّ الأُمّة النّاجحة هي التي تستثمر  في أغلى ما تملك ألا وهو الإنسان، فديننا الإسلامي الحنيف ينظر لِلْمَوْهِبَةِ على أَنَّها عَطِيَّةٌ ونعمةٌ من الله سبحانه وتعالى، يجب على المسلم أَنْ يُؤدي شكرها ، ومن الجدير بالذكر أَنّ أُمَّتنا الإسلامية قد أنجبت عدداً من العلماء الأفذاذ في مُختلف المجالات، منهم علماء فُضلاء في علوم القرآن، والتّفسير ، والحديث، والسّيرة، كما أَنَّ التّاريخ شاهد على إبداعات المسلمين العلمية، فكان منهم: ابن الهيثم ، والرّازي، وابن النّفيس، وابن سينا، وابن رشد، والفارابي، وابن خلدون .... وغيرهم كثير .

شهادات نبوية للمُبْدعين

لقد أثمرت المدرسة النّبوية التي بدأت في دار الأرقم بمكّة المُكرّمة في اكتشاف كفاءات كثيرة ومواهب مُتعدّدة لدى الصّحابة الكرام  - رضي الله عنهم أجمعين –، كما جاء في الحديث أَنّ رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم - قال: (أَرْحَمُ أُمَّتِي بأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ ، وَأَشَدُّهُمْ فِي أَمْرِ اللَّهِ عُمَرُ ، وَأَصْدَقُهُمْ حَيَاءً عُثْمَانُ بن عفّان ، وَأَعْلَمُهُمْ بالْحَلالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ ، وَأَفْرَضُهُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ ، وَأَقْرَؤُهُمْ أُبيُّ بن كَعْبٍ ، وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينٌ وَأَمِينُ هَذِهِ الأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بن الجَرَّاح) (3 ).  

وعند دراستنا للسّيرة النّبوية الشّريفة نجد أَنَّ رسولنا - صلّى الله عليه وسلّم- قَدْ رَعَى مواهب الشّباب رعاية تامّة وحَمَّلهم المسئوليات الجِسَام التي يعجز عن حملها أعظم الرّجال،  فعليّ – كرّم الله وجهه-  ينام في فراشه- صلّى الله عليه وسلّم-  ليلة الهجرة، وَيُوَلِّي أسامة بن زيد -رضي الله عنهما-  جيشاً فيه أبو بكر وعمر وعثمان – رضي الله عنهم أجمعين- ،  وَيَثِقُ في قُوّة حفظ زيد بن ثابت - رضي الله عنه - فيأمره بتعلّم العبرانية والسّريانية فيتعلّمهما في أقلّ من ثلاثة أسابيع.

اصطفاء النبهاء

أخرج الإمام أحمد بن حنبل في مُسنده عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ ، أَنَّ أَبَاهُ زَيْدًا أَخْبَرَهُ ، أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمَدِينَةَ ، قَالَ زَيْدٌ : ( ذُهِبَ بِي إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأُعْجِبَ بِي ، فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، هَذَا غُلامٌ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ  مَعَهُ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ، بِضْعَ عَشْرَةَ سُورَةً ، فَأَعْجَبَ ذَلِكَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَقَالَ" : يَا زَيْدُ ، تَعَلَّمْ لِي كِتَابَ يَهُودَ ، فَإِنِّي وَاللَّهِ مَا آمَنُ يَهُودَ عَلَى كِتَابِي "، قَالَ زَيْدٌ : فَتَعَلَّمْتُ[لَهُ] كِتَابَهُمْ، مَا مَرَّتْ بِي خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حَتَّى حَذَقْتُهُ وَكُنْتُ أَقْرَأُ لَهُ كُتُبَهُمْ إِذَا كَتَبُوا إِلَيْهِ ، وَأُجِيبُ عَنْهُ إِذَا كَتَبَ) ( 4) .

لقد أبصرَ رسولنا – صلّى الله عليه وسلّم – ملامح الإبداع والذّكاء المُتَوقّد عند زيد بن ثابت - رضي الله عنه-، من خلال حِفْظه المُتقَن لِسُوَرٍ من القرآن الكريم ، فحضَّه – عليه الصّلاة والسّلام – على تعلُّم اللغة العبرية، وبذلك يكون زيد – رضي الله عنه- قد تميَّز عن أصحابه من خلال نُبوغه في علوم مُختلفة.

تقدير عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- للنّابغين

لقد اشتُهر عبد الله بن عباس- رضي الله عنهما – بفهمه للقرآن الكريم وتفسيره، حيث لُقِّب – رضي الله عنه – بِحَبْر الأُمّة وتُرجمان القرآن، ومن الجدير بالذّكر أَنَّ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – كان من أكثر الناس إعجاباً به- رضي الله عنه-  تقديراً لعلمه ومكانته ، حيث كان عمر –رضي الله عنه- يستفتيه ويُعِدّه لِلْمُعْضلات، وكان يقول فيه:  ( ابن عباس فتى الكُهُول، له لسانٌ سَئُولٌ، وقلبٌ عَقُولٌ )، كما كان يُجلسه مع كبار الصّحابة – رضي الله عنهم أجمعين -، حيث اتّخذه مُستشاراً له وعمره وقتئذ خمس عشرة سنة، ومِمّا يدلُّ على علمه الغزير  ما أخرجه الإمام البخاري  في صحيحه عَن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ :(كَانَ عُمَرُ يُدْخِلُنِي مَعَ أَشْيَاخِ بَدْرٍ، فَكَأَنَّ بَعْضَهُمْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ، فَقَالَ: لِمَ تُدْخِلُ هَذَا مَعَنَا وَلَنَا أَبْنَاءٌ مِثْلُهُ؟ فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّهُ منْ حيثُ عَلِمْتُمْ!! فَدَعَاهُ ذَاتَ يَوْمٍ فَأَدْخَلَهُ مَعَهُمْ، فَمَا رُئِيتُ أَنَّهُ دَعَانِي يَوْمَئِذٍ إِلاَّ لِيُرِيَهُمْ، قَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أُمِرْنَا أَنْ نَحْمَدَ اللَّهَ وَنَسْتَغْفِرَهُ إِذَا نُصِرْنَا وَفُتِحَ عَلَيْنَا، وَسَكَتَ بَعْضُهُمْ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا ، فَقَالَ لِي: أَكَذَاكَ تَقُولُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ؟ فَقُلْتُ: لا ، قَالَ: فَمَا تَقُولُ؟ قُلْتُ: هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَعْلَمَهُ لَهُ ، قَالَ : {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} - وَذَلِكَ عَلامَةُ أَجَلِكَ- { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } فَقَالَ عُمَرُ: مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلاّ مَا تَقُولُ) (5).

هذا هو ديننا الإسلامي العظيم الذي يهتمّ بأبنائه جميعاً، وَيُولي المُبدعين منهم والنّابغين عناية فائقة، ويضعهم في المكانة اللائقة بهم، حيث إِنَّه يغتنم نبوغهم وَقُدُرَاتِهم؛ ليرقوا بأنفسهم في طريق العلم والنّور ويخدموا دينهم وأُمَّتهم فيما نبغوا وأبدعوا فيه.

وصلَّى الله على سيِّدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين

الهوامش :

  1. سورة البقرة الآية (269)                       
  2. صفوة التفاسير للصابوني 1/170         
  3. أخرجه الترمذي   
  4. أخرجه أحمد                        
  5. أخرجه البخاري