الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ،وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين ، ومن اقتفى أثرهم وسار على دربهم إلى يوم الدين أما بعد :
لقد أرسل الله سبحانه وتعالى الرسل وبعث الأنبياء وأحاط الإنسان برعايته منذ اللحظة الأولى لوجود الإنسان على الأرض ، لهدايته وتحقيق مصالحه في الدنيا والآخرة ، وإقامة حياته على أسس من الحق والعدل والخير ، فتتابعت الرسل والأنبياء حتى جاء محمد- صلى الله عليه وسلم – يحمل الرسالة الخاتمة للناس جميعاً ، وجاءت الشريعة الإسلامية لتحقيق خير الناس وسعادتهم في الدنيا والآخرة فنظمت علاقتهم بخالقهم وعلاقتهم بأنفسهم ، وعلاقة بعضهم ببعض .
فالإسلام بتعاليمه السمحة جاء لينتقل بالبشر إلى حياة مشرقة بالفضائل والآداب والأخلاق ، حيث اعتبر المراحل المؤدية إلى هذا الهدف النبيل من صميم رسالته ، كما أنه عد الإخلال بهذه الوسائل خروجاً عليه وابتعاداً عنه ، فليست الأخلاق الفاضلة من مواد الترف التي يمكن الاستغناء عنها بل هي أصول الحياة التي يرتضيها الدين ويحترم ذويها .
ومما لا شك فيه أن الطابع العام للإسلام إنما هو الطابع الأخلاقي ، لأن الأخلاق ثمرة العقيدة والشريعة ، فالمجتمع الإسلامي مجتمع يقوم على عقيدة وفلسفة خاصة تنبثق منها نظمه وأحكامه وآدبه وقيمه الأخلاقية ، كما أن مهمة بعثة الرسول الكبرى – صلى الله عليه وسلم – أن يتمم مكارم الأخلاق لقوله
- صلى الله عليه وسلم - : ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) ( 1) ، والدين في مفهومه العام حسن الخلق ، لقوله – صلى الله عليه وسلم : ( الإسلام حسن الخلق ) ( 2 ) ، ولما سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلقه – صلى الله عليه وسلم – قالت : ( كان خلقه القرآن ) (3 ).
الأخلاق في الإسلام
لقد دعا الإسلام إلى مكارم الأخلاق، وحث عليها وأمرنا بالالتزام بها والسير على نهجها فقد وصف الله نبيه الكريم بأنه صاحب خلق عظيم، فكان- صلى الله عليه وسلم - كما وصفته عائشة قرآناً يمشي على الأرض، وجز ى الله نبينا خير الجزاء فما رأى أمراً يقربنا من الله إلا وأمرنا به ، وما رأى أمراً يبعدنا عن الله إلا وحذرنا منه ، فالأخلاق في الإسلام فرائض لا فضائل ، والنصوص الشرعية صريحة في أن الشعائر الإسلامية تربية على الأخلاق ، وصولاً إلى الغاية المنشودة وهي طاعة الله عز وجل ، فعندما نأتي إلى أركان الإسلام فعلى المسلم ألا ينظر إلى العبادة وحدها ، فلا ينظر إلى صلاته، ولا إلى صومه ، ولا إلى حجه ، ولا إلى زكاته وحدها إن لم تؤد ِ به إلى الخلق الحسن لقول الله تعالى عن الصلاة : { إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ } (4) ، فمن لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً ، وإذا أردنا التعرف على الصلاة المقبولة من الله فلنقرأ هذا الحديث القدسي الذي يرويه النبي – صلى الله عليه وسلم – : ( إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع بها لعظمتي ، ولم يستطل على خلقي ، ولم يبت مصراً على معصيتي ، وقطع النهار في ذكرى ، ورحم المسكين وابن السبيل والأرملة ورحم المصاب ، فذلك نوره كنور الشمس ، أكلؤه بعزتي وأستحفظه ملائكتي ، أجعل له في الظلمة نوراً ، وفي الجهالة حلماً ، ومثله في خلقي كمثل الفردوس في الجنة ) ( 5 ) .
وعندما نأتي إلى فريضة الصوم نقرأ قول الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (6) ، فقد شرع الله الصوم ليهذب النفس ويعودها الخير ويبعدها عن الشر فعلى الصائم أن يتحفظ من الأعمال التي تخدش صومه حتى ينتفع بصومه وتحصل له التقوى فالصوم ليس مجرد إمساك عن الطعام والشراب بل هو إمساك عن الأكل والشرب وسائر ما نهى الله عنه لقوله – صلى الله عليه وسلم - : (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة بأن يدع طعامه وشرابه) ( 7 ) ، وعنه أنه قال ) رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورب قائم ليس له
من قيامه إلا السهر ) ( 8) .
وعندما نأتي إلى الزكاة والصدقات نقرأ قوله تعالى : {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (9) ، ثم نقرأ قول الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى ....} (10) ، وفي الحج نجد قول الله سبحانه وتعالى :{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ } (11) .
إن ارتباط الضمير الإنساني بالله هو الخط الأول في أي تربية خلقية ناجحة عميقة الجذور ، وهذا يقضي باتخاذ العقيدة الإسلامية قاعدة أساسية للتربية الفردية أو الاجتماعية .
حقيقة الإفلاس
إن رسولنا – عليه الصلاة والسلام – دائم الخوف على أمته ، فهو حريص عليها دائماً يقول : يا رب أمتي...أمتي ، فهو يقودها إلى الخير ويحثها على الطاعات ، ويحذرها من المعاصي و الموبقات، وهنا نجد أن رسولنا – صلى الله عليه وسلم – يبين لنا الإفلاس الحقيقي وهو ضياع الأجر والثواب ، ضياع العبادات والطاعات ، ضياع الحسنات حيث يقول عليه الصلاة والسلام : ( " أتدرون من المفلس ؟ " قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع ، فقال – صلى الله عليه وسلم -: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ، ويأتي وقد شتم هذا ، وقذف هذا ، وأكل مال هذا ، وسفك دم هذا ، وضرب هذا ، فُيْعطى هذا من حسناته ، وهذا من حسناته ، فإن فَنِيَت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطُرحت عليه ، ثم طرح في النار ) ( 12).
لذلك نجد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يحذر المسلمين من الوقوع في المعاصي ، وظلم الآخرين ، فمن زلت قدمه ، فعليه أن يتوب إلى خالقه ، وأن يرد الحقوق لأصحابها قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ، لأن رصيده من الحسنات سيذهب للآخرين ، فإن لم يؤدِ ما عليه أخذ من خطاياهم والعياذ بالله حيث يقول -صلى الله عليه وسلم – : " من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو من شيء فليتحلله منه اليوم قبل ألا يكون لا دينار ، ولا درهم ، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته ، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه " ( 13 ) .
وها هو عليه الصلاة والسلام يضرب القدوة الحسنة ، والأسوة الصالحة كما جاء في الحديث ( في ذات يوم كان أُسيد يُطْرف الناس بطرائفه ، فغمزه النبي – صلى الله عليه وسلم – في خاصرته ، كأنه يستحسن ما يقول ، فقال أسيد : أوجعتني يا رسول الله ! ، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم – " اقتص مني يا أُسيد" ،
فقال أُسيد: لم يكن عليّ قميص حين غمزتني يا رسول الله ، فرفع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قميصه عن جسده الشريف ، فاحتضنه أُسيد وجعل يقبله ، ويقول : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، إنه لَبُغْية كنت أتمناها ) (14) ، كما وورد موقف شبيه بهذا الموقف مع سواد يوم بدر ، ففي هذا الموقف الذي بين أيدينا يضرب النبي – صلى الله عليه وسلم – المثل الأعلى لأمته ويقدم لهم الأسوة الحسنة والقدوة الطيبة في تمكين أصحاب الحقوق من حقوقهم ، حتى وإن كان شيئاً يسيراً نستهين به فيما بيننا .
لذلك نجد أن رسولنا – صلى الله عليه وسلم – يحذرنا من إيذاء الآخرين فيقول عليه الصلاة والسلام ( من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة ) (15 )
ويقول أيضاً : ( إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يلقى لها بالاً يرفعه الله بها درجات ، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يلقى لها بالاً يهوي بها في جهنم )(16 ).
كما وأعلنها – صلى الله عليه وسلم – صريحة مدوية في خطبته في حجة الوداع : " إن دماءكم ، وأموالكم ، وأعراضكم ، حرام عليكم كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا ، في بلدكم هذا ،ألا هل بلغت " (17 ) .
دعوات نبوية .... فهل من مستجيب
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين
الهوامش :
1-أخرجه أحمد
2-أخرجه البخاري
3- أخرجه مسلم
4- سورة العنكبوت آية (45)
5- أخرجه البزار
6-سورة البقرة الآية (183)
7- أخرجه الترمذي
8- أخرجه ابن ماجه
9- سورة التوبة الآية (103)
10- سورة البقرة الآية (264)
11- سورة البقرة الآية (197)
12- أخرجه مسلم
13- أخرجه البخاري
14- أخرجه الحاكم في المستدرك
15- متفق عليه
16- أخرجه البخاري
17- متفق عليه