2023-09-22

إن الله يحـــب التوابيــــن
2008-04-25

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ،وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين ، ومن اقتفى أثرهم وسار على دربهم إلى يوم الدين أما بعد :

            قال الله تعالى: "  {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ *  وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ}  ( 1) .

            هذا نداء كريم من الرب الرحيم ،  إلى عباده الذين فرطوا في جنبه، وأسرفوا على أنفسهم أن ينيبوا إليه،  وأن لا يقنطوا من رحمته، ولا ييأسوا من عفوه ومنته، فهو يغفر الذنوب جميعاً ولا يبالي، ويتجاوز عن السيئات، ويقبل التوبة، ويعفو عن عباده وهو الغفور الرحيم ، فمشروعية التوبة دليل على سمو الشريعة الإسلامية وصلاحيتها لكل زمان ومكان .

والتوبة من الصفات الجليلة التي لازمت الإنسان منذ القدم ، والتي حرص الأنبياء والصالحون على التحلي بها ، وعلى دعوة غيرهم إليها .

فهذا آدم عليه السلام يقول الله تعالى في شأنه : {فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}  ( 2 )  

 وهذا إبراهيم عليه السلام يدعو الله تعالى بقوله :   {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} ( 3 ) .

وهذا هود عليه السلام ينصح قومه بقوله :   {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ}(4 ) .

وهذا صالح عليه السلام يقول لقومه:    {قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ } (5)

وهذا شعيب عليه السلام يأمر قومه بقوله:{وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ}(6)  .

وعند دراستنا للسنة النبوية الشريفة نقرأ حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم -  وهو يقول : ( يأيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة ) ( 7) ، كما ويبين – عليه الصلاة والسلام – رحمة الله الواسعة ، وفضله الكبير على عباده ، ففي الحديث الذي يرويه  عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-  قال : ( قدم على  رسول الله – صلى الله عليه وسلم – سبىٌ ، فإذا امرأة من السبي تبحث عن صبيها ، وكان ضائعاً ، فلما وجدته أخذته فألصقته ببطنها, وأرضعته ، فقال لنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : أترون هذه طارحة ولدها في النار ؟ قلنا: لا والله ، وهي تقدر ألا تطرحه : فقال : لله أرحم بعباده من هذه بولدها ) ( 8) .

فهذا الحديث الشريف يطمئن المسلمين بأن الله سبحانه وتعالى رحيم بعباده ، يفتح لهم باب توبته كي يعودوا إليه معترفين بذنوبهم ، طالبين المغفرة والعفو منه سبحانه وتعالى .

وليعلم الذين أسرفوا على أنفسهم بالمعاصي والذنوب، أن يأسهم من رحمة الله وعفوه طعن منهم في كرم الله العزيز الوهاب، لذا فهو ينهاهم عن اليأس والقنوط ويشجعهم على التوبة والإنابة، ويعدهم بحسن القبول وكمال العفو والمغفرة ، {إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } ( 9 ).    

           و لله در الإمام البوصيري رحمه الله حيث يقول :

                   يانفس لا تقنطي من زلة عظمت

                                                   إن الكبائر في الغفران كاللمم

            إن التوبة كرم الهي ومنحة من الله لعباده عرفهم فيها كيفية الرجوع إليه إن بعدوا عنه، وكيفية التخلص من تبعات الذنوب إذا عصوه كي يفروا إليه تائبين منيبين متطهرين .

            فما أكرمه من إله، وما أرحمه بخلقه وعباده، يجابه الناس ربهم بالفسوق والعصيان، ويخالفون دينه، ويأتون ما نهى عنه حتى إذا تابوا وأنابوا، قبل الله توبتهم  وغفر سيئاتهم وأحبهم ورفع درجاتهم: "  {إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} ( 10 )      .

            إذاً المعنى الحقيقي للتوبة أن ينتقل المرء المسرف على نفسه من ظلمات الباطل والمعصية والهوى إلى نور الإيمان، وكمال الطاعة وعز التقوى، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا  }  (11 ) ، ومن مقتضياتها هجر الذنوب أصلاً، وتوطين النفس على عدم العودة إلى المعاصي، والشعور بالخوف من الله عز وجل والندم على ماجنته الأيدي.

            فليست التوبة قولاً باللسان، وإدعاء لا دليل عليه، ولكنها هجر الآثام وتطهير النفس من الأدران، واستشعار الألم والندم على ما كان فان من يحس ألم الذنوب ووخز المعاصي لا يقدم عليها .

            إن يد الله عز وجل مبسوطة بالعفو والمغفرة لا تنقبض في ليل ولا نهار تنشد مذنباً أثقلته المعاصي يرجو الأوبة بعد طول الغيبة ، ومسيئاً أسرف على نفسه يرجو  رحمة ربه وفاراً إلى مولاه يطلب حسن القبول .

            قال -صلى الله عليه وسلم- : "إن الله تعالى يبسط يده  بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها"  ( 12).

قال العلماء : التوبة واجبة من كل ذنب ، فإن كانت المعصية بين العبد وبين الله تعالى لا تتعلق بحق آدمي؛ فلها ثلاثة شروط :

أحدها : أن يقلع عن المعصية ، والثاني : أن يندم على فعلها ، والثالث : أن يعزم أن لا يعود إليها أبداً، فإن فقد أحد الثلاثة لم تصح توبته ، وإن كانت المعصية تتعلق بآدمي فشروطها أربعة : هذه الثلاثة ، وأن يبرأ من حق صاحبها .

كما أن من شروط صحة التوبة أن تكون والإنسان في صحة وعافية له أمل في الحياة ورغبة في البقاء، أما التوبة حين معاينة الموت واليأس من الحياة فمردودها على صاحبها غير مقبولة .

            وقد قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- : "إن الله عز وجل  يقبل توبة العبد مالم يغرغر" أي مالم تبلغ الروح الحلقوم  ( 13) .

            قال الله تعالى: "  {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ  } (14) .

            إن الكثيرين اليوم يقطعون حياتهم خائضون في اللهو واللعب يرتكبون من الذنوب ما تمليه عليهم أهواؤهم  ويأتون من الخطايا ما يروق لنفوسهم ثم يسوفون ويقولون : سوف نتوب، وغداً نعمل الصالحات .

            فيا من غركم الشيطان، وخدعتكم الآمال ألا تعلمون أنه قد يعاجلكم المرض، أو تخطفكم يد المنية على حين غرة، فإذا أنتم من الهالكين.

إن التوبة إذ ا تحققت على وجهها كان ثوابها جزيلاً ، وكان أجرها عظيماً ، ويكفي للدلالة على ذلك قوله تعالى   {إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}  ( 15 ) .

وما دام الأمر كذلك فعلينا جميعاً أن نردد الحديث الذي سماه سيدنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم بسيد الاستغفار ، بأن يقول الإنسان إذا أخطأ :

( اللهم  أنت ربي لا إله إلا أنت ، خلقتني وأنا عبدك ، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت ، أعوذ بك من شر ما صنعت ، وأبوء لك بنعمتك عليّ ، وأبوء بذنبي ،  فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ) (16 )

 

اللهم اجعلنا من التوابين واجعلنا من المتطهرين

 وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين .

 

الهوامش :

 

 1- سورة الزمر الآية (53-54)        

 2- سورة البقرة الآية (37)                               

 3-سورة البقرة (128)

4-سورة هود الآية (52)                                   

 5- سورة  هود الآية (61)                                

6- سورة هود الآية (90) .

7- أخرجه مسلم                                                 

8- أخرجه البخاري ومسلم              

9- سورة يوسف الآية (87)

10-سورة البقرة الآية (222)                           

11- سورة التحريم الآية (8)           

12- أخرجه مسلم

13- أخرجه الترمذي                                        

14- سورة النساء الآية (18)             

15- سورة الفرقان الآية (70)

16-أخرجه البخاري