الحمد لله الذي أنعم علينا بالإسلام وشرح صدورنا للإيمان ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم – وعلى آله وأصحابه أجمعين ... وبعد
تمر بنا في هذه الأيام ذكرى كئيبة ، يشيع معها جو من الأسى والحزن ، إنها ذكرى النكبة في الخامس عشر من شهر مايو ( أيار ) سنة 1948م ، حيث مضى التاريخ يجر قرونه المثقلة بأنواع الظلم البشري حتى حط رحاله في أرض فلسطين ، التي أعزها الله وأكرمها بالمسجد الأقصى المبارك ، الذي بارك الله تعالى حوله من الأرض والديار ، حيث أخرج الصهاينة أهلها عنوة ، وأجبروهم على الهجرة من أرضهم وديارهم تحت كل أشكال التهديد والقتل والتشريد .
إن ذكرى النكبة تشكل لوناً من ألوان الهزيمة التي منيت بها الأمة ، حيث طرد شعب من أرضه ووطنه، وجاء المحتل مكانه ، ونحن نتذكر آلام ضياع هذه الأرض المباركة – أرض المقدسات والنبوات ، علينا أن نعي بأن هناك أمماً كثيرة قد هزمت لكنها نهضت من جديد ، واسترجعت مكانتها على خارطة العالم كاليابان وألمانيا ، ولكن للأسف فإن الهزيمة التي أصيبت بها أمتنا ناجمة عن فتك الأمراض بجسدها ، لذلك لابد للأمة أن تغير نفسها، والقانون الإلهي واضح { إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } ( 1).
إن حاضر الأمة بحاجة إلى تصويب ، ففي ظل عوامل الهدم الكثيرة والمتنوعة ، وانقطاع الصلة الفعالة بأمجاد الأمة ، تاهت حقائق كثيرة ، واختف عند البعض ملامح المستقبل ، فالمستقبل مكفول لأمتنا ، لكن عندما ترث الأرض فتصلحها ، وعندما تستفيد من أخطائها السابقة ، فتنأي بنفسها عن الغرور ، وعن الاستهانة بالآخرين ، وتضع الأمور في نصابها الصحيح ، وتعمل على جمع شملها وتوحيد كلمتها ، ورص صفوفها لأن الواقع مُر... ولكن الطريق الحلو بين أيدينا .
إن بلادنا فلسطين تحتل مكاناً مميزاً في نفوس العرب والمسلمين ، حيث تهفو إليها نفوس المسلمين ، وتشد إليها الرحال من كل أنحاء المعمورة ، ففيها المسجد الأقصى المبارك أولى القبلتين، وثاني المسجدين ، وثالث الحرمين الشريفين ، وفيها التاريخ الإسلامي العريق الذي يزرع نفسه بقوة في كل شارع من شوارعها ، وكل حجر من حجارتها المقدسة ، وكل أثر من آثارها .
ومن المعلوم أن رحلة الإسراء بدأت من المسجد الحرام وانتهت بالمسجد الأقصى، وفي ذلك ربط للمسجدين لن يزول مهما فعل اليهود، يقول -سبحانه وتعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}(2 )، و قال - صلى الله عليه وسلم-: " لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إَلَى ثَلاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِي هذا، وَالمَسْجِدِ الأقْصَى " (3 )
ففي المسجد الأقصى المبارك صلى رسولنا محمد – صلى الله عليه وسلم – بالأنبياء إماما ، كما صلى في ساحاته أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، وأبو عبيدة عامر بن الجراح ، وخالد بن الوليد ، وعبد الرحمن بن عوف ، وغيرهم من مئات الصحابة .
وفي جنبات الأقصى رفع الصحابي الجليل بلال بن رباح الأذان بصوته الندي ، وفي ظل هذه البيت دفن العديد من الصحابة الكرام وعلى رأسهم عبادة بن الصامت أول قاض للإسلام في بيت المقدس ، وشداد بن أوس، وغيرهما من عشرات الصحابة ، وما من شبر من أرضه إلاّ وشهد ملحمة أو بطولة تحكي لنا مجداً من أمجاد المسلمين .
إن بلادنا فلسطين تتعرض لهجمة شرسة من سلطات الاحتلال الإسرائيلي ، فهم يعملون ليل نهار على تهويد مدينة القدس ، بعد أن عزلوها عن محيطها الفلسطيني من خلال جدار الفصل العنصري ، وما تقوم به سلطات الاحتلال الإسرائيلي يومياً من قتل للمواطنين ، وهدم للبيوت وتدمير للمصانع والمؤسسات ، وتجريف الأراضي الزراعية ، ومحاربة العمال في لقمة عيشهم ، وفرض الحصار الاقتصادي والسياسي على الشعب الفلسطيني ليس عنا ببعيد .
كما يتعرض المسجد الأقصى المبارك في هذه الأيام لمؤامرات عديدة منها تقويض بنيانه وزعزعة أركانه جراء الحفريات الإسرائيلية المستمرة للأنفاق أسفل منه ، وكذلك محاولات السلطات الإسرائيلية إقامة ما يُسمىّ بالهيكل المزعوم بدلاً منه ، ومنع المصلين من الوصول إليه ، ومنع ترميمه .
إن الواجب على الأمتين العربية والإسلامية ألا يتركوا أبناء الشعب الفلسطيني وحدهم ، بل لابد من مساندتهم وتقديم العون لهم ، فالمسؤولية عن استرجاع فلسطين ليست مسؤوليتهم وحدهم، وحماية المقدسات المهددة ليست قاصرة عليهم، فالرباط وثيق بين المسجد الحرام ، والمسجد الأقصى في قوله تعالى : {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (4) ، هذا الرباط يربط المسؤولية بعنق كل مسلم .
إن الواجب على الأمة العربية والإسلامية أن توحد كلمتها ، فقد أكرم الله هذه الأمة بمقومات العزة والتمكين ، فلو اجتمعت لما استطاع أحد كسرها، ولكنها بسبب تفرقها وتنازعها تلاشت هذه القوى فسهل على العدو هزيمتها، كما يحكى في ذلك قصة الرجل الحكيم الذي كان له اثنا عشر ولداً ، فلما حضرته الوفاة، استدعى أولاده جميعاً ، فاجتمعوا عنده ، فطلب حزمة من العصى ، فأُحْضِرت ، فطلب من كل واحد منهم أن يكسرها مجتمعة فعجز ، فأعطى كلاً منهم عصاً فكسرها بسهولة ، فقال لهم ، يا بني ، كونوا جميعاً ولا تتفرقوا فيسهل كسركم ..
وفي هذا المعنى يقول الشاعر :
تأبى الرماحُ إذا اجتمعنَ تكسراً وإذا افترقن تكسرت آحادا
فلماذا هذا التشتت بين أمة " التوحيد ... والوحدة ... ولماذا لا يعود المسلمون إلى دينهم ليستعيدوا وحدتهم التي فيها سر قوتهم وعزتهم وكرامتهم وتحرير مقدساتهم ومنها المسجد الأقصى المبارك وفلسطين .
إن فلسطين بقعة مباركة ، بل هي من أقدس البلاد وأشرفها ، ولها في قلوب المسلمين جميعاً مكانة سامية .
ولا تخفى مكانة فلسطين في الكتاب والسنة على كل من له إلمام بالعلوم الدينية والدراسات الإسلامية، فيعرف حتماً -من غير شك ولا ريب- أن فلسطين جزء من بلاد الإسلام وفيها المسجد الأقصى المبارك الذي شرّفه الله تعالى بالتقديس، وجمع فيه الأنبياء ليلة الإسراء والمعراج تكريماً لنبينا عليه وعليهم الصلاة والسلام ، قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِد ِالْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (5).
إذاً فما حول المسجد الأقصى من البلاد ، قد بارك الله فيه ، وسر هذه البركة أن تلك الأرض هي مهبط الرسالات السماوية ، ومهد الكثيرين من الأنبياء والمرسلين ، وأفضلها " القدس " حيث المسجد الأقصى أولى القبلتين ، وثاني المسجدين ، وثالث الحرمين الشريفين ، ومسرى نبينا ومعراجه .
إن حق العودة للاجئين الفلسطينيين حق شرعي غير قابل للتصرف على الإطلاق ، فمن حق الفلسطيني أن يعود إلى أرض آبائه وأجداده ، تلك الأرض التي ولد على ثراها ، وأكل من خيرها ، وشرب من مائها واستظل بظلها .
إن الواجب على الأمتين العربية والإسلامية مساندة هذا الشعب، ودعم المرابطين في بيت المقدس، وأكناف بيت المقدس " لا تزال طائفةٌ من أمتي على الدينِ ظاهرين لعدوُّهم قاهرين لا يضرُّهم مَنْ خالفهم إِلاّ ما أصابَهُم من َلأْوَاء حتى يأتيهم أمرُ اللهِ وهم كذلك قالوا: وأين هم ؟ قال : ببيتِ المقدسِ وأكنافِ بيتِ المقدس" (6)
فعلى الأمة العربية والإسلامية واجب كبير تجاه أشقائهم في فلسطين وذلك بالتبرع لصالح القضية الفلسطينية كل حسب استطاعته فعن ميمونة مولاة النبي-صلى الله عليه وسلم- قالت:"يا رسول الله،أفتنا في بيت المقدس،قال:"أرض المحْشر والمنشر ، ائتوه فصَلوا فيه، فإن صلاة فيه كألف صلاة في غيره" قلت: أرأيت إن لم أستطع أن أتحمل إليه؟ قال:" فتهدي له زيتا يُسرجُ فيه،فمن فعل ذلك فهوكمن أتاه" (7 ).
فهذه دعوة نبوية لأبناء الأمة بأن يشدوا الرحال إلى الأقصى ، فمن لم يستطع منهم كالعرب والمسلمين خارج فلسطين، والذين لا يستطيعون الوصول نتيجة الاحتلال الإسرائيلي الغاشم، فهؤلاء عليهم واجب كبير هو مساعدة إخوانهم وأشقائهم المرابطين في فلسطين عامة والقدس خاصة من سدنة وحراس ، وعمال ، وتجار ، وطلاب ، وجامعات ، ومستشفيات ، ومواطنين ، والذين يشكلون رأس الحربة في الذود عن المقدسات الإسلامية في فلسطين بالنيابة عن الأمتين العربية والإسلامية، وحتى يستطيعوا التصدي لمؤامرات تسريب الأراضي للمحتلين ، والثبات في البيوت في البلدة القديمة والتي تعمل سلطات الاحتلال على تفريغها من أهلها ، وإسكان المستوطنين بدلاً منهم .
فلسطين الحبيبة تناديكم،والقدس تناديكم اليوم للتأكيد بأنها عاصمة دولة فلسطين، ولتطبيق العدالة في أعدل قضايا الدنيا ، قضية فلسطين ، وقضية شعب فلسطين ، وحقه في العودة إلى وطنه ، وحق تقرير مصيره ، وخروج الأسرى والمعتقلين ، وقيام دولة فلسطين وعاصمتها القدس الشريف .
فلسطين تقول لكم : سوف يتراجع الظلم ، وينهزم الأعداء ، فالليل مهما طال فلا بد من بزوغ الفجر ، وإن الفجر آتٍ بإذن الله رغم أعداء شعبنا كلهم .
نسأل الله أن يحفظ شعبنا ومقدساتنا من كل سوء .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين
الهوامش :
1-سورة الرعد الآية (11)
2- سورة الإسراء الآية (1)
3- أخرجه البخاري
4- سورة الإسراء الآية (1)
5- سورة الإسراء الآية (1)
6- أخرجه احمد بن حنبل
7- أخرجه ابن ماجة