الحمد لله الذي أنعم علينا بالإسلام وشرح صدورنا للإيمان ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم – وعلى آله وأصحابه أجمعين ... وبعد
تمر بنا في هذه الأيام ذكرى اليوم العالمي للامتناع عن التدخين والتي توافق غداً السبت الحادي والثلاثين من شهر مايو ( أيار) من كل عام ، ونحن في كل مناسبة نبين وجهة نظر الإسلام كي يكون المؤمن على بينة من أمره .
لقد أحاط الإسلام الإنسان بسياج من التوجيهات التي تحفظ عليه عقله وصحته وعقيدته وماله ونسله ، ليباشر حياته وهو مطمئن على نفسه وماله وولده ، ويتمتع بما أحل الله له من نعم وطيبات ، من هنا فان رسالات السماء عملت على صيانة الضرورات الخمس للحياة البشرية : وهي الدين والنفس والعقل والنسل والمال، فالإسلام يعمل على صيانة الإنسان ، وهذه الضرورات الخمس لم تبح في ملة قط كما ذكر الإمام الغزالي في كتابه المستصفى، وقد ذكرت هذه الضرورات الخمس لتكون معالم واضحة أمام الإنسان المسلم حينما يتصرف في أمر من أمور الحياة ، فلا يسمح بانتقاصها أو العدوان عليها أو إهدار قيمتها ، ومن أجل ذلك جاءت الأوامر والنواهي في الإسلام تحرم كل ضار بواحد من هذه الأمور الخمسة ، سواء كان العدوان عليها يتعلق بالشخص نفسه، أو يؤدي إلى جلب ضرر للآخرين ، حيث جاءت تعاليم الإسلام جميعها لمصلحة الإنسان ومن أجل خيره وسعادته في دنياه وأخراه، ومن هنا فإن كل ما من شأنه أن يجلب على الإنسان ضررا مادياً أو معنوياً يُحرِّمه الدين ويعاقب عليه .
وفي بيان القرآن الكريم لهذه الأمور وسواها من المحرمات سماها حدوداً لله ، وحذر من العدوان عليها قال الله تعالى : { تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (1 )
وعلى ضوء هذا التوجيه القرآني نستطيع أن نفهم من قول رسول الله – صلى الله عليه وسلم –" لا ضرر ولا ضرار في الإسلام " أن لا يقدم الإنسان على أمر يسبب ضرراً لنفسه أو لسواه فأحل الله الطيب النافع وحرم الخبيث الضار ، وحذر من الوقوع فيه وجاء قول الحق تبارك وتعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ* قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ } (2 )
وفي بيان وظائف النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول الله في نفس السورة { وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ } (3 ).
ومن المعلوم للكافة أن الدخان بجميع أنواعه القديمة والحديثة يضر بالإنسان ضرراً بالغاً لا يقتصر على الفرد المتعاطى له وحده ، بل يتعداه إلى الضرر بالمجتمع ذاته ، وتعاليم الدين الإسلامي تعد سياجاً منيعاً وحصناً حصيناً لحماية الأفراد والجماعات من كل الأخطار المحدقة بهم ، وفي مقدمتها في عصرنا الحاضر خطر التدخين الذي يتفنن الأشرار الآن في وسائل إنتاجه وبيعه وتوزيعه، ولذلك نجد الرسول الكريم –صلى الله عليه وسلم - عندما يقول : " لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال : عن عمره فيما أفناه ، وعن شبابه فيما أبلاه ، وعن ماله من أين أكتسبه وفيما أنفقه ، وعن علمه ماذا عمل فيه " ( 4)، فإنه يذكر الإنسان بمسئولياته في المحافظة على صحته وأوقاته وماله وعمله ،والدخان بجميع أنواعه يضر الإنسان في صحته وماله وأوقاته وتهدر طاقته ، وينعكس ذلك بطبيعة الحال على كل من يحيطون به سواء في الأسرة أو في العمل أو المجتمع بصفة عامة .
وهؤلاء الذين يتناولون الأشياء الضارة الخبيثة من التدخين إلى المخدرات التي تضر بالأجسام وبالعقول ، وتقضى على القدرات النافعة في الإنسان ، وتحيله إلى عبد لهذه الشهوات المدمرة ، فيصير عنصر هدم وقلق في المجتمع ، بما يجلبه من الويلات على نفسه وعلى أسرته وعلى المجتمع من الأخطار ما يصيبه في الصميم، فالتدخين ضار بالصحة العامة ، ويعرض من يتناوله للإصابة بأمراض تحيل حياته إلى بؤس وشقاء ، وتعطل قواه العاملة فيصير عالة على المجتمع .
انظر مثلاً إلى رجل يدخن سجائر إمبريال ، نجد أن ثمن علبة الامبريال الآن أكثر من عشرة شواقل، فمن يدخن علبتين يومياً فإنه يضيع عشرين شيكلاً يومياً ، إذاً مجموع ما ينفقه شهرياً ستمائة شيكل ، إذا تضيع ستمائة شيكل شهرياً من دخل هذا المدخن هباء منثورا ، وفي طرق غير مشروعة ، لكن انظر أخي القارئ لو أنفق المدخن هذا المبلغ في طريق مشروع فمثلاً : ماذا سيشتري بالستمائة شيكل: إنه يشتري كيس دقيق، وكيس رز ، وكيس سكر ، وكيلو شاي ، وعلبة خميرة ، وعشرين قطعة من الصابون الجيد ، هذا كله ما ينفقه رجل واحد لشراء هذا الدخان المتوسط السعر، والمصيبة أعظم واشد إذا كان هناك أكثر من مدخن في الأسرة، أو كان الدخان من النوع الجيد الذي يزيد سعره على خمسة عشر شيكلاً ، فلماذا يحدث ذلك ؟! ولماذا تضيع هذه الأموال ؟! ناهيك عن الأمراض التي تصيب المدخنين .
إن الإسلام حارب التدخين ، ودعا المسلم إلى المحافظة على جسده وعقله، ولقد أحسن الفقهاء الفضلاء وهم يتحدثون عن حرمة التدخين لما قالوا إن التدخين حرام، لحكم أربع:
الأولى: كونه من الخبائث، والله يقول: { وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ } ( 5 ) .
والثانية: كونه تبذيراً، والله يقول:{إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} (6 ).
والثالثة : كونه يضعف الصحة، والإسلام يعلنها صريحة مدوية " لا ضرر ولا ضرار"، { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } (7 ) ، فسرطان الرئة من أسبابه التدخين، وأمراض كثيرة يكون التدخين سبباً في تزايدها واستمراريتها، وكم من مدخن أقلع عن التدخين اعترف بأن شهيته قد فتحت وأن صحته قد تحسنت والحمد لله .
والرابعة : لقول الرسول – صلى الله عليه وسلم- : " إن الملائكة لتتأذى مما يتأذى منه الناس" (8 )، وقوله - عليه الصلاة والسلام - في حديث آخر: " من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزل مسجدنا"(9 ) فما بالك برائحة فم المدخن .
لقد تأخر الإعلان عن مضار التدخين على الرغم من الوثوق بأضراره البالغة، فإن نفوذ المال القادر على طمس كل حقيقة لم يلبث أن انساب إلى و سائل الإعلام فوقفت كلها مع شركات التبغ لتحارب تقارير المختصين سواء بالتشكيك في صحتها أو بالدعاية المضللة للسجائر ، لكننا أصبحنا نقرأ اليوم على علب السجائر عبارة أن التدخين ضار بالصحة وقد يؤدي إلى الوفاة، وهذه إشارة إلى مخاطر التدخين حيث يتسبب في أمراض الجهاز التنفسي ، كما يؤدي التدخين إلى تراكم الدهون على الجدران الداخلية للشرايين فيؤدي ذلك إلى ضيقها وتخثر الدم في أماكن التراكم هذه، فتتكون الجلطة الدموية ، ومن ثم تزيد احتمالات الوفاة بين المدخنين ضعفين بالمقارنة إلى غير المدخنين ، كما يؤدي التدخين إلى إصابة اللسان وقاع الفم بالتقرحات مع تضخمات وابيضاض في الغشاء المخاطي كمقدمة لحدوث السرطان ، كما يؤدي التدخين إلى التهاب اللثة واللسان ، كما تزيد معدلات الوفيات في الفئات العمرية المختلفة بين المدخنين مقارنة بنظائرهم من غير المدخنين عدة أضعاف ، وربما كان ذلك من جراء حدوث السرطان في أماكن مختلفة في الجسم لاسيما في الرئتين وبعض أجزاء الجهاز الهضمي إضافة إلى المثانة البولية .
وإذا كان الأمر كذلك من اتفاق الدين والعلم في مشكلة مجتمعية كهذه على درجة كبيرة من الخطورة فما الحل والمدخنون مستمرون في ذلك ، بل إن هناك من الأطباء والتربويين من يدمنون على التدخين وبشكل مؤسف ، الحل في تقديري يكمن في محاصرة المدخنين بشتى الوسائل ، فلا بد من تطبيق القوانين الخاصة بالتدخين في الأماكن المغلقة أو في وسائل المواصلات أو في أثناء العمل، خاصة في المدارس والجامعات ، هذا فضلاً عن التوعية الجماعية في كل دوائر المجتمع عن طريق المحاضرات والندوات في المدارس والجامعات والنقابات والهيئات والمصانع والشركات، كما أن لدور العبادة ووسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية دور هام في التوعية بمضار التدخين على كل المستويات والحث على الإقلاع عن هذه العادة الرذيلة ليسلم الفرد والمجتمع من آثارها السيئة ومخاطرها العديدة .
فعلينا جميعاً أن نتعاون في الإقلاع عن هذا المرض الفتاك، وأن نعي بأن الإسلام العظيم قد سبق الأنظمة الوضعية في المحافظة على حياة الفرد وعلى سلامة المجتمع، وعلينا أن نعي بأن صحة الأبدان من صحة الأديان، وأن المؤمن القوي في عقيدته ودينه وأخلاقه وصحته وعافيته أحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين .
الهوامش :
1- سورة البقرة الآية (229)
2- سورة الأعراف الآية (32-33)
3- سورة الأعراف الآية (157)
4- أخرجه البزار والطبراني
5- سورة الأعراف الآية (157)
6- سورة الإسراء الآية(27)
7- سورة البقرة الآية (195)
8- أخرجه الطبراني في الأوسط
9-أخرجه الشيخان