الحمد لله الذي أنعم علينا بالإسلام وشرح صدورنا للإيمان ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم – وعلى آله وأصحابه أجمعين ... وبعد
تمر بنا في هذه الأيام ذكرى كئيبة وحزينة ، إنها ذكرى احتلال ما تبقى من الأراضي الفلسطينية وفي مقدمتها مدينة القدس والضفة الغربية وقطاع غزة ، فمدينة القدس التي تضم المسجد الأقصى المبارك هي ثالث المدن المعظمة في الشريعة الإسلامية بعد مكة المكرمة التي يوجد فيها المسجد الحرام ، والمدينة المنورة التي شرفها الله بمسجد الرسول – صلى الله عليه وسلم - ، كما ضمت قبره الشريف – عليه الصلاة والسلام - .
إن فلسطين بقعة مباركة، بل هي من أقدس البلاد وأشرفها ، ولها في قلوب المسلمين جميعا مكانة سامية ، ولفلسطين ، وغرة جبينها القدس ، ولؤلؤتها المسجد الأقصى المبارك، مكانة في الإسلام، جاء التنويه بها في القرآن الكريم،وفي السنة النبوية الشريفة، وتجلت كذلك في مشاعر المسلمين، وعواطفهم الدينية ، وفي تعلقهم القلبي والروحي بهذا الأثر الديني العظيم، وظهرت هذه المكانة أيضاً عبر التاريخ من خلال حرص المسلمين على فتح فلسطين عامة،والقدس خاصة، وذلك في خلافة عمر بن الخطاب ، ثم في أيام صلاح الدين الأيوبي، كما عملوا على صيانة معالمها، والمحافظة عليها .
وقد توج ذلك الفضل والشرف : بمعجزة الإسراء والمعراج من المسجد الحرام ، إلى المسجد الأقصى ، وبما أنزل الله تعالى في شأن تلك المعجزة من آيات بينات في القرآن الكريم { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}(1 ).
ويتضح من الآية السابقة بأن ما حولَ المسجد الأقصى من البلاد ، قد بارك الله فيه، وسر هذه البركة : أن تلك الأرض هي مهبط الرسالات السماوية ، ومهد الكثيرين من الأنبياء والمرسلين ، وأفضلها " القدس " حيث المسجد الأقصى المبارك أولى القبلتين، وثاني المسجدين ، وثالث الحرمين الشريفين ، ومسرى نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم - ومعراجه .
ولقد ارتبط المسلمون بهذه البلاد الطاهرة بارتباطات عديدة منها :
أولاً : الارتباط العقدي : يقول الله تعالى : {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (2 ) .
فالقدس كما ورد في الآية الكريمة هي نهاية رحلة الإسراء وبداية رحلة المعراج ، وحادثة الإسراء والمعراج من المعجزات، والمعجزات جزء من العقيدة الإسلامية ولذلك فان المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها مرتبطون بهذه البلاد ارتباطاً عقدياً .
كما أن أرض فلسطين هي أرض المحشر والمنشر لحديث ميمونة – رضي الله عنها- قالت: أفتنا في بيت المقدس ؟ فقال: أرض المحشر والمنشر، إئتوه فصلوا فيه فان كل صلاة فيه كألف صلاة في غيره، قالوا: ومن لم يستطع أن يأتيه قال : فليبعث بزيت يسرج في قناديله، فان من أهدى له زيتاً كان كمن أتاه " (3 ).
ثانياً : الارتباط التعبدي : لقد أكرم الله المسجد الأقصى المبارك بمميزات عديدة منها :
إن أجر العبادة يضاعف فيه للحديث : " الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، وصلاة في مسجدي بألف صلاة، وفي مسجد بيت المقدس بخمسمائة صلاة " ( 4 ).
إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد حث المسلمين على زيارته فقال : " لا تشـد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام، ومسجدي هذا ، والمسجد الأقصى " ( 5 )
المسجد الأقصى المبارك هو قبلة المسلمين الأولى حيث استقبله الرسول- صلى الله عليه وسلم – والمسلمون معه ما يقرب من ستة عشر شهراً (6 )
كما رغب الرسول - صلى الله عليه وسلم – المسلمين أن يبدأوا مناسك الحج والعمرة من المسجد الأقصى المبارك للحديث " من أهل بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى غفر له ما تقدم من ذنبه" (7) .
ثالثاً : الارتباط السياسي : لقد فتحت مدينة القدس مرتين :
الأولى : الفتح الروحي في ليلة الإسراء والمعراج حينما أسري بالنبي –صلى الله عليه وسلم – من مكة المكرمة إلى المسجد الأقصى المبارك، وصلى عليه السلام إماماً بالأنبياء والمرسلين .
الثانية : الفتح السياسي : وحدث ذلك في العام الخامس عشر للهجرة على يدي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه – حين تسلم مفاتيح مدينة القدس من بطريك الروم صفرونيوس.
رابعاً : الارتباط التاريخي : إن العرب اليبوسيين قد سكنوا فلسطين منذ أكثر من ثلاثة آلاف وخمسمائة سنة قبل الميلاد، وتاريخنا واضح المعالم في هذه البلاد ، حيث إن تراب أرضنا مختلط بدماء أجدادنا الأقدمين الذين حافظوا على هذه الأرض، ورووها بدمهم الزكي وهم يتصدون للهجمات الاستعمارية التي كانت تريد احتلال هذه البلاد .
وقد حكم العرب والمسلمون هذه الأرض طيلة الوقت باستثناء سنوات معدودة من الاحتلال الصليبي إلى الاحتلال الإسرائيلي ولكن القدس وفلسطين قد لفظت جميع المحتلين، وسيزول الاحتلال الإسرائيلي الجائر عن فلسطين إن شاء الله .
خامساً : الارتباط الحضري : إن الحضارة العربية الإسلامية واضحة المعالم في بلادنا المباركة فلسطين ويتمثل ذلك في الطراز الفريد النادر الذي ينطق بروعة الجمال والفن المعماري الإسلامي في المسجد الأقصى المبارك وقبة الصخرة المشرفة حيث إن المدة بين المسجد الأول (بيت الله الحرام) والمسجد الثاني (المسجد الأقصى المبارك) هي أربعون عاماً بنص الحديث الشريف .
ولم يتعرض تاريخ القدس لأحداث دموية واضطهاد ديني منذ الفتح الإسلامي إلا في تلك الفترة التي استولى فيها الصليبيون على بيت المقدس (492-583هـ) (1099-1187م)، وهي فترة شغلت من هذا التاريخ نحو تسعين سنة، وعلى نقيض العهدة العمرية التي فرضت السلام والأمن، وحققت العدل والرعاية والحق لكل من وجدهم الإسلام في بيت المقدس .
ونلاحظ هنا كيف أن عمر- رضي الله عنه – هو الذي سافر بنفسه من المدينة المنورة إلى مدينة القدس ليتسلم مفاتيحها، ومعروف أن السفر وقتئذ كان مشقة كبيرة إذ كانت الإبل هي وسيلة التنقل التي ترهق المسافر العادي فكيف بأمير المؤمنين رأس الدولة المسلمة يخرج بنفسه مسافراً هذه المسافة الكبيرة الشاقة من المدينة المنورة إلى بيت المقدس ليتسلم بنفسه مفاتيح المدينة .
وكان بوسعه وهو أكبر رأس في الدولة الإسلامية المنتصرة أن يرفض شروط المهزومين وينيب عنه القائد الذي تحقق الفتح على يديه وهو أبو عبيدة بن الجراح الذي كان لقبه في الإسلام " أمين الأمة " .
لكن عمر أدرك ببصيرته الملهمة أن البقعة المباركة التي كان إليها مسرى الرسول – صلى الله عليه وسلم - ومنها معراجه جديرة بالإجلال والتقدير ، وأن المشقات التي يتحملها رأس الدولة المسلمة هي بعض ما ينبغي أن يكنه المسلمون من إجلال وإعزاز للقدس وفلسطين التي كرمها القرآن الكريم وكرمها الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام.
وقد يسر الله فتح بيت المقدس وفلسطين مرات عديدة بعد البعثة النبوية الشريفة فكان :
* الفتح الروحي : وذلك في ليلة الإسراء والمعراج عندما أسري بالنبي عليه السلام من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى بفلسطين، وقدَ صَلَّى الرسول-صلى الله عليه وسلم- إماماً بإخوانه من الأنبياء والمرسلين، فكانت الإمامة رسالة بأن الأمة الإسلامية قد تسلمت الراية من الأمم السابقة .
* فتح أمير المؤمنين عمر بن الخطاب-رضي الله عنه- لفلسطين في العام الخامس عشر للهجرة عندما ركب دابته وصعد الجبل المطل على مدينة القدس فتراءت له المدينة فأخذ يكبر الله أكبر، الله أكبر، وسمي الجبل حتى يومنا هذا بالمكبر، وتسلم-رضي الله عنه- مفاتيحها من بطريرك الروم صفرونيوس، وكانت العهدة العمرية التي تمثل لوحة فنية في التسامح بين المسلمين والمسيحيين تدل على سماحة وعدل الإسلام .
* فتح القائد صلاح الدين الأيوبي لفلسطين بعد أن كانت أسيرة لسنوات عديدة في أيدي الصليبيين، وتحررت القدس في ذكرى إسراء الرسول –صلى الله عليه وسلم - ، من مكة إليها – في يوم الجمعة 27 رجب سنة 583هـ وفق 2 أكتوبر سنة 1187م – دون إراقة قطرة دم واحدة ، وهي التي سبحت فيها خيول الصليبيين بدماء المسلمين ، قبل تسعين عاماً ؟!
فمنذ الفتح الإسلامي الأول علي يد الخليفة الراشدي الثاني عمر بن الخطاب -رضي الله عنه -، الذي كان أول من دخل مدينة القدس فاتحاً ، مروراً بتضحيات المسلمين مع القائد المسلم " صلاح الدين الأيوبي " الذي دخلها مرة أخرى محرراً إياها من رجس الصليبيين ، كانت فلسطين وقدسها ، عزيزة منيعة علي الأعداء الحاقدين.
وها هو التاريخ يعيد نفسه ، لنعيش نحن أبناء هذا الجيل ، أقسى مراحل تاريخنا ، مرحلة النكبة المشؤومة، وضعف وتفكك الأمة العربية والإسلامية ، وكيف عدا عليها الحاقدون من كل حدب وصوب ، فاستباحوا أرضها ، ونهبوا ثرواتها ، ودّنَّسوا مقدساتها، وبهذه المناسبة نتضرع إلى الله سبحانه وتعالى أن يجمع شملنا ، ويوحد كلمتنا ، ويؤلف بين قلوبنا ، وأن تحرر بلادنا المباركة ، وأن يعود أسرانا الأبطال إلى أهليهم وذويهم ، كما نسأله سبحانه وتعالى أن يحمي شعبنا ، وبلادنا المباركة وقدسنا وأقصانا ومقدساتنا من كل سوء، إنه نعم المولى ونعم النصير .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين
الهوامش :
(1) و ( 2) - سورة الإسراء ،آية (1)
3- أخرجه ابن ماجة
4- أخرجه السيوطي في الجامع الصغير
5- أخرجه البخاري
6- أخرجه البخاري
7- أخرجه ابن ماجه