الحمد لله الذي أنعم علينا بالإسلام وشرح صدورنا للإيمان ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم – وعلى آله وأصحابه أجمعين ... وبعد
في مثل هذا الشهر ( يونيو) حزيران ومنذ سنوات عديدة فقد العالم الإسلامي علمين من أعلام الأمة الإسلامية ، وعالمين من علمائه الأجلاء، وأستاذين من أساتذته الفضلاء ، ونموذجين فريدين من الدعاة ، وإذا كانت كل أمة تتحسس ألم المصيبة وفداحة الكارثة حين تفقد بطلاً من أبطالها ، ورجلاً فذا من رجالاتها ، فإن أمتنا حريٌّ بها أن يطول حزنها ، وتشتد مصيبتها لفقد أبنائها البررة ، وعلمائها الأجلاء ، وخطبائها البلغاء.
ولعل خير ما يذكر أمام هذه الحقيقة قول رسولنا الكريم – صلى الله عليه وسلم - : ( إنما الناس كالإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة ) ( 1) ، فقد فقدت الأمة الإسلامية في مثل هذا الشهر عالمين جليلين هما : فضيلة الداعية الشيخ / محمد متولي الشعراوي الذي انتقل إلى جوار ربه سنة 1998م ، و الثاني هو فضيلة الداعية الشيخ / علي الطنطاوي الذي انتقل إلى جوار ربه سنة 1999م .
وقد جاء في الحديث النبوي : ( ليس شيء خيراً من ألف مثله إلا الإنسان )(2 ) .
وفي هذا يقول الشاعر :
والناس ألف منهمو كواحد وواحد كالألف إن أمرٌ عَنا!
وموت العلماء مصيبة كبيرة ، حتى قال بعضهم : لموت قبيلة أيسر عند الله من موت عالم!!
وقال آخر : إذا مات العالم ثلمت في الإسلام ثلمة لا يسدها إلا عالم غيره ، ومن أشد الأخطار على الأمة أن يموت العلماء ، فيخلفهم الجهلاء ، الذي فرغت رؤوسهم من العلم ، وقلوبهم من التقوى ، فيفتون الناس بغير علم ، فيضلون ويضلون !!
وهذا ما نبه عليه الحديث الصحيح الذي قاله نبينا – صلى الله عليه وسلم - : (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم " وفي رواية لم يبق عالماً " اتخذ الناس رءوسا ًجهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا) (3 ) .
هذه نظرة الإسلام إلى العلماء الذين يرشدون الناس إلى الخير والهدى، ويبينون لهم أحكام دينهم الإسلامي الحنيف .
لقد علمتنا عقيدة الإسلام أن الخلود لله عز وجل ، وأن كل من عليها فانِ ، وأن كتاب الله ليعد بحسن الصبر عمن نفقد حسن العوض منه ، وإنا لنستنجز الله وعده أن يهبنا – ونحن الضعفاء – قوة من عنده ورحمة من لدنه.
إن الدين الإسلامي يشجع على العلم، ويكرم العلماء، حيث إن أول آيات كريمة نزلت على سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم- كانت تتحدث عن العلم ( اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم) ( 4 ).
ورفع الإسلام مكانة العلماء عالية خفاقة (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) ( 5 )، كما وجاءت الأحاديث النبوية الشريفة تبين ذلك، حيث يقول - صلى الله عليه وسلم- : (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة ، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع ، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء ، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب ، وإن العلماء ورثة الأنبياء ، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر ) (6 ) .
ويقول أيضاً : ( إن مثل العلماء في الأرض كمثل النجوم يهتدى بها في ظلمات البر والبحر ، فإذا انطمست النجوم أوشك أن تضل الهداة ) (7 ) .
كما وبين – صلى الله عليه وسلم – أن علمهم يبقى صدقة جارية إلى يوم القيامة كما ورد في الحديث الشريف ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له ) (8 ) .
الشيخ الداعية / محمد متولي الشعراوي
لقد فقدت الأمة الإسلامية في السابع عشر من شهر يونيو ( حزيران ) سنة 1998م عالماً جليلاً ، ومفكراً إسلامياً، وداعية حجة صدوقاً ، بعد أن حمل قلمه ، وشرع فكره ، ما ينيف على نصف قرن في ميدان الدعوة الإسلامية ، ورغم أن الشيخوخة ناءت عليه بأثقالها ، والمرض سلبه صحته وعافيته ، فإنه لم يخفض قلمه ، ولم يستسلم لعوامل الوهن والمرض ، وإنما ظل يؤدي واجبه المقدس تجاه الله وتجاه أمته ، حتى استوفي أجله ، وانتقل إلى الدار الآخرة ، وقلبه عامر بالإيمان ، وجوارحه مشرقة بعزة المؤمن ، ذلك هو فضيلة الشيخ المرحوم / محمد متولي الشعراوي رحمه الله .
فقد كان للشيخ – رحمه الله تعالى - أثر كبير في نشر الوعي الإسلامي الصحيح، وبصمات واضحة في تفسير القرآن الكريم بأسلوب فريد جذب إليه الناس من مختلف المستويات الثقافية ، حيث كان – رحمه الله-ممن حباهم الله فهم القرآن الكريم، ورزقهم معرفة أسراره وأعماقه، وله فيه لطائف وإشارات ونظرات، استطاع أن يؤثر بها في المجتمع، حتى وفقه الله تعالى لتفسير القرآن الكريم كاملاً ، وهذا فضل من الله ونعمة .
وقد تم تكريم فضيلة الشيخ الشعراوي من قبل المشرفين على جائزة دبي الدولية للقرآن الكريم في دورتها الأولي عام 1418هـ حيث كرم راعي الجائزة هذا الداعية الإسلامي الذي تفرد بأسلوبه المتميز في تفسير القرآن الكريم تفسيراً علمياً وروحياً ،يدخل قلوب الناس ويفتح الأذهان على معان دقيقة جداً في القرآن الكريم ،وكان رحمه الله قد تقلد مناصب علمية ودينية ورسمية وأكاديمية،و له العشرات من الكتب والمؤلفات.
كما إن الشيخ الشعراوي-رحمه الله- قدم لدينه ولأمته الإسلامية، وللإنسانية كلها أعمالا طيبة، تجعله قدوة لغيره في الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وترك تراثاً فكرياً عظيما يشتمل على تفسير القرآن الكريم، وفتاوى شرعية ، ومؤلفات عديدة ، رحمه الله رحمة واسعة .
الشيخ الداعية / علي الطنطاوي
كما فقدت الأمة الإسلامية في الثامن عشر من شهر يونيو ( حزيران ) سنة 1999م عالماً جليلاً ، ومشعلاً من مشاعل الهداية ، ولساناً من ألسنة الصدق ، وداعية من دعاة الحق والخير ، كان يجمع في عظاته بين العلم والأدب ، أو بين الإقناع والإمتاع .
يتجلى هذا فيما سطره من كتب ومقالات ، وما فاض به لسانه من خطب ومحاضرات ، أو دروس وإفتاءات ، وكان –رحمه الله- أثناء إقامته بالمملكة العربية السعودية يقدم برنامجه الأسبوعي ( نور وهداية ) وكذلك برنامجه السنوي خلال شهر رمضان المبارك ( على مائدة الإفطار ) وكلاهما من المفيد الممتع .
كما جند الشيخ – رحمه الله – طوال عمره قلمه ولسانه للذود عن حياض الإسلام ، وحراسة قلاعه من المغيرين عليه ، لذلك فقد رشحته الجامعات والمؤسسات العلمية الإسلامية ، لجائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام ، وقد حصل عليها ، وهو لها أهل، وكان كما قال الشاعر :
وليس يزدان بالألقاب حاملها إلا إذا ازدان باسم الحامل اللقب
لقد ترك الشيخ الطنطاوي – رحمه الله – تراثاً ضخما يتمثل في عشرات الكتب في الدين والفكر ، والأدب والتاريخ ، والتربية والإصلاح ، ومنها ذكرياته التي نشرت في ثمانية أجزاء ، كما يتمثل في مئات أو آلاف المقالات التي نشرها، كما و ترك الشيخ-رحمه الله- مئات الأشرطة من دروس ومحاضرات، وفتاوى، رحمه الله رحمة واسعة ، وغفر له ، وتقبله في عباده الصالحين .
نسأل الله الكريم أن يكرم نزلهم، وأن يعوضنا عنهم وعن غيرهم من العلماء العاملين خير العوض، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم ، اللهم أمطرهم وابل رحمتك ورضوانك ، وأنزل السكينة في قلوبنا حتى نبصر المعالم فلا نتعثر ، وهبنا من فضلك وعنايتك حتى تقوى سواعدنا على حمل الأمانة ، وارزقنا اخلاصاً في العمل ، وصبراً على وعورة الطريق ، واجعلنا في مرضاتك على كل حال .. .والحمد الله رب العالمين .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين
1لهوامش :
1- أخرجه البخاري
2- أخرجه الطبراني
3- أخرجه الشيخان والترمذي
4- سورة العلق الآية (1-5)
5-سورة الزمر الآية (9)
6- أخرجه أبو داود والترمذي
7- أخرجه أحمد
8- أخرجه مسلم