2023-09-22

الإسـراء والمعـراج...منحــة بعــد محنــة
2008-07-25

الحمد  لله الذي أنعم علينا بالإسلام وشرح صدورنا للإيمان ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد  – صلى الله عليه وسلم – وعلى آله وأصحابه أجمعين ... وبعد

يقول الله تعالى : {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (1)

رحلة الإسراء والمعراج هي ثمار صبر السنين ، وفيض عطاء الله رب العالمين لرسوله الكريم سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم - ، وذلك مصداقاً لقول الله عز وجل :   {  إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} (2)

ففي عام واحد تتابعت على النبي – صلى الله عليه وسلم – الخطوب ، وأحاطت به المحن فبعد الحصار المضروب على محمد – صلى الله عليه وسلم – وصحبه الكرام – رضي الله عنهم أجمعين -  مات عمه أبو طالب ، وكان له عضداً وناصراً ، فانتهزت قريش الفرصة وأذاقوه من العذاب ما تئن منه الجبال ! وهيهات والنفس المحمدية أقوى ، بما منحها الله من قوة العزيمة ومضاء اليقين ، وعقيدة الثبات ،  ثم ابتلاه الله سبحانه وتعالى بموت خديجة- رضي الله عنها -  التي كانت له ملاذاً،  ثم ذهب إلى ثقيف لعله يجد الأنيس والنصير ، لكنهم سبوه وشتموه وضربوه بالحجارة حتى أدميت قدماه – عليه الصلاة والسلام -  ، ثم كانت رحلة الإسراء والمعراج تكريماً من الله سبحانه وتعالى لنبينا محمد – صلى الله عليه وسلم - .

 لقد كانت رحلة الإسراء والمعراج – وما تزال – تحرك المشاعر عند المسلمين ، وتأخذ بأيديهم نحو حياة العزة والكرامة ، وتريهم آيات الله الباهرة التي لا يستطيع من يسمع عنها أو يراها إلا أن يقول   {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (3) ، وسوف تظل تلك الحادثة المباركة مصدر هدى ، ومنبع يقين ، لمن أراد أن يذكّر أو أراد شكوراً ، فسبحان من طوى الزمان لنبيه ، فأسرى به وعرج ، وعاد النبي الكريم- صلى الله عليه وسلم - إلى بيته وما يزال فراشه دافئاً !.

فما أحوج المسلمين في هذه الأيام الصعبة ، التي كثرت فيها الفتن ، وادلهمت فيها الخطوب ، إلى أن يتذكروا صعاباً قاساها النبي الكريم ، وفتناً حاصرته وأصحابه حتى سألوه ،ألا تدعو الله فتستنصر لنا ؟ فقال لهم:(كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه ، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه ، فيشق باثنتين ما يصده ذلك عن دينه ) ( 4)  .

 ومع قدوم هذه الذكرى كل عام تتطلع الآمال نحو تحرير مسرى رسولنا العظيم ،أولى القبلتين  وثاني المسجدين  وثالث الحرمين الشريفين  ، وهو الآن يئن ويزداد أنينه يوما ًبعد يوم ،لما يتعرض له من تدنيس وإهانة على أيدي سلطات الاحتلال الإسرائيلي ،  حيث  تقوم السلطات الإسرائيلية بأعمال حفريات وغيرها من أجل تقويض بنيانه وزعزعة أركانه ، كما تقوم بهدم البيوت المحيطة به ، أو السيطرة عليها من أجل تفريغ المسجد الأقصى المبارك خاصة ومدينة القدس عامة من أصحابها الشرعيين ،إن هذه الأعمال مرفوضة من قبل شعبنا الفلسطيني ،  وكذلك قرارات محكمة العدل العليا الإسرائيلية التي تسمح لليهود بالصلاة في الأقصى ، هي قرارات باطلة ، وكذلك محاولاتهم بناء ما يسمي بالهيكل على أنقاض الأقصى هو محض افتراء وعمل مرفوض ، فالأقصى كان ومازال وسيبقي إسلاميا إن شاء الله ،أملنا في الله كبير أن يرد كيد المعتدين ، وأن ينصر عباده الصادقين { وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا} (5) .

ونظراً لأهمية حادثة الإسراء والمعراج فقد أنزل الله سورة الإسراء لتتحدث عن العلاقة الوثيقة بين المسجد الحرام بمكة المكرمة والمسجد الأقصى بالقدس في الآية الأولى من السورة في قولة تعالى :  {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (6) .

هذه الآية الكريمة تبشر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – والمسلمين ، وتعلن للدنيا في كل حين أن بيت المقدس أصبح مسجداً للمسلمين ، ومن أجل ذلك جمع الحق سبحانه وتعالى في تلك الليلة – الأنبياء والمرسلين ، فصلى بهم– عليه الصلاة والسلام – إماماً.

كذلك تشير الآية الكريمة إلى أن الإسراء من المسجد الحرام بمكة إلى هذا المكان المقدس بفلسطين إعلان بأن ملكية هذه الأماكن ستؤول حتماً للمسلمين ، ويالها من بشارة طيبة بأرض طيبة مباركة نصت الآية الكريمة على بركتها ، كما نصت بذلك آيات أخرى ، نذكر منها قوله  تعالى في شأن إبراهيم – عليه السلام :-  {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} (7) .

وقوله تعالى :    {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً  } (8) .

وقوله :   {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} (9) .

والقرية : المدينة المقدسة ، وبيت المقدس وهي مهبط النبوات ، ومحط رحال المرسلين ، ومحمد – صلى الله عليه وسلم – هو وارث الأنبياء ، والأمة الإسلامية من بعده هي الأمينة على هذه المقدسات ، فالمسجد الأقصى المبارك  هو أقدم مسجد بعد المسجد الحرام ،  لما روى عن أبي ذر الغفاري – رضي الله عنه- أنه قال: قلْتُ يَا رَسُولَ الله: أَيُّ مَسْجد وُضعَ في الأرْضِ أوَّلاً؟ قَالَ : اَلْمسجِدُ الْحَرَامُ، قَالَ : قُلْتَ: ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ : اَلْمَسجِدُ الأقْصَى، قُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ أَرْبَعُونَ سَنَةً، ثُمَّ أَيْنَمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلاةُ بَعْدُ فَصَلِّهْ، فَإِنَّ الْفَضْلَ فِيِه . (10) ،كما أن المسجد الأقصى هو أحد المساجد الثلاثة التي لا تشد الرحال إلا إليها ،  فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:  "لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إَلَى ثَلاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِي هذا، وَالمَسْجِدِ الأقْصَى "   ( 11 ) ، كما أنه لا يخفى على أحد أن الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة ، و في المسجد النبوي بألف صلاة ، و في المسجد الأقصى بخمسمائة صلاة كما نصت الأحاديث النبوية الشريفة ، فعن أبي الدرداء -رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: " فُضِّلت الصلاةُ في المسجد الحرام على غيره بمائةِ ألفِ صلاة، والصلاة في مسجدي هذا بألفِ صلاة، والصلاة في بيتِ المقدسِ بخمسمائة صلاة" (12)   .

كما كان المسجد الأقصى المبارك قبلة المسلمين الأولى ، فقد صلى إليها الرسول – صلى الله عليه وسلم – والمسلمون نحو ستة عشر شهراً من الزمان ، ومن هنا تتجلى حكمة ربط المسجد الأقصى بالمسجد الحرام في الآية ، وأن ذلك يدل دلالة قاطعة على وحدة المقدسات الإسلامية ، والبلاد الإسلامية ، والأمة الإسلامية ، وأن الخطر الذي يهدد المسجد الأقصى في القدس يهدد المسجد الحرام في مكة المكرمة .

من كل هذه المعاني نفهم ونستنتج أن الأمل يأتي بعد الألم ، وأن المحن تسبق المنح ، وأن الضيق يأتي بعده الفرج ، وأن مع العسر يسراً .

وقد علمنا القرآن الكريم هذه المفاهيم ليؤصل فينا عدم اليأس والقنوط ، والاستبشار دائماً ، والثقة في نصر الله لعباده المؤمنين ، مهما ضاقت بهم السبل ، وتقطعت بهم الأسباب ،  فهذه سنة الله في خلقه ، ليمحص المؤمنين ويمحق الكافرين ، قال الله تعالى {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ} (13)  

مناشدة

وبهذه المناسبة فإننا نناشد أبناء شعبنا الكريم ، أن يجمعوا شملهم ، ويوحدوا كلمتهم ، ويرصوا صفوفهم من أجل المحافظة على الأقصى والمقدسات والقدس وفلسطين ، كما يجب على المسلمين عامة ، والعرب خاصة أن يوحدوا صفهم ، وأن يحشدوا طاقاتهم لتحقيق ذلك ، ففلسطين عربية إسلامية ما بقى في المسلمين نفس يتردد ، والقدس مركز إسلامي عزيز مقدس يحافظ المسلمون عليه حفاظهم على إيمانهم وعقيدتهم ، للحديث الشريف: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " لا تزال طائفةٌ من أمتي على الدينِ ظاهرين لعدوُّهم قاهرين لا يضرُّهم مَنْ خالفهم إِلاّ ما أصابَهُم من َلأْوَاء حتى يأتيهم أمرُ اللهِ وهم كذلك قالوا: وأين هم ؟ قال : ببيتِ المقدسِ وأكنافِ بيتِ المقدس"  (14).

 

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين

الهوامش :

1- سورة الإسراء الآية (1)    

2- سورة الزمر الآية (10)      

3- سورة المؤمنون الآية (14)             

4-  أخرجه البخاري

5- سورة الإسراء الآية (51) 

6- سورة الإسراء الآية (1)    

7-سورة الأنبياء الآية (71)                  

8- سورة سبأ الآية (18)

9- سورة البقرة الآية (58)    

10- أخرجه البخاري           

11- أخرجه البخاري                           

12-ذكره السيوطي في الجامع الصغير

13- سورة البقرة الآية (214)                 

14- أخرجه أحمد